تلعب نوعيّة الأفلام الرومانسية في حيّز تقليدي، تخلق عوالم بسيطة وعُقداً عاطفية سائدة ومفهومة، سواء على مستوى الدوافع أو النهايات السعيدة، لكنها على الجانب الآخر تتميّز ببناء عوالم شكيّة. ومن ثُنائية اليقين والارتياب يُمكن إمساك مسار جيّد لتطوير سردية النوعيّة الرومانسية. وعن طريق الرؤية المُلتبسة للتجربة العاطفية، تتحوّل تيمة سائدة مثل الثالوث التقليدي (الزوج ــ الزوجة ــ العشيق/ة) إلى مساحة ثرية من الخوف والمُكاشفة واستعراض العِلل النفسية والبدنية. والحقيقة أن فكرة إزاحة النموذج التقليدي وهدم النسق المثالي الميّال لتوصيف الحُب بالمُطلق وحصره داخل دائرة مُغلقة، تنتهي بعودة الحبيبين إلى نُقطة البداية ولو تخلل علاقتهما شك وانفصال؛ تجعل وجود النقيض ضرورياً، لأنه يفتح باباً لأشكال عاطفية أخرى، مُتفردة واستثنائية في مسارها النهائي وحجم إشكالياتها. والأكثر أهميّة أنها مُثيرة للأفلمة، تحفّز مُخرجين مُهمّين مثل الفرنسية كلير دوني على صنع فيلم مثل «بحبّ واستماتة» Avec amour et acharnement الذي لا يخلو من المُشكلات، لكنه يخوض في مساحة تُغيّر من منظورنا للفيلم الرومانسي. ليست أول من يفعل ذلك بالطبع، لكنها تُذكرنا بطبيعة السينما كمُختبر للتجارب الإنسانية، حتى المُتطرف منها.تُحاصر سارة (جولييت بينوش) بشعور مُلتبس تجاه شخصين: جان (الممثل فنسان ليندن) حبيبها في الوقت الراهن، يتساكن كلاهُما في شقة سارة منذ عشر سنوات تقريباً، وفرانسوا (الممثل غريغوار كولن) حبيبها السابق، الذي غادر مُخلّفاً وراءه ثُقباً غائراً في قلب سارة، وجراح الهوى لا تداويها الأيام، لكنها لم تكف عن فِعل الحُب، فعشقت جان كما أحبّت فرانسوا. والحقيقة أن الإشكالية لا تقع في الحب بقدر ما تكمُن في صداقة جان وفرانسوا، فعلاقة الصداقة تُحتّم التلاقي والتجمّع ولو على فترات مُتباعدة. لذلك حين يعود فرانسوا إلى باريس بعد عشر سنوات، تبدأ علاقة الثلاثي بالتطوّر، وتشرع ملامح الثالوث التقليدية بالظهور والتشكّل. فالانجذابات المفعمة بالحنين والشهوة، وأنصاف المشاعر المُقيدة بارتباط آخر شبه مُقدس بين جان وسارة؛ تفرض حدوداً على اختلاسات فرانسوا وسارة. هذه الاختلاسات التي تقع في قلب سارة موقع الخطيئة، وفي قلب جان موقع الجريمة، وفي قلب فرانسوا موقع الشوق والرغبة؛ تودي بالقصة إلى مُنحنيات أخلاقية مُتعرجة، تفرض أسئلة كثيرة حول طبيعة العلاقة في المُجتمع الما بعد حداثي.
تُضفّر دوني السّرد بطريقة تتماهى مع كلا الحبيبين، بحيث يُصبح الاثنان ــ بطريقةٍ ما ــ ضحايا للمرأة، لأنها مُخترقة من قِبل كُل أنواع المشاعر، ولا تضع حدوداً صارمة تُعرّف مساحتها الخاصة، بل تبقى على سجيّتها، وتتحوّل المساحات الخاصة إلى مشاع عاطفي، يتجاوز حدود العلاقة ويتطرف إلى ما هو أبعد من الالتزام بواجب الحفاظ على علاقة واحدة مُقدسة. فسارة مُحاصرة بمشاعر تتوزّع بين الندم والشوق. مع أول نظرة لحبيبها السابق فرانسوا تشعُر أنها في غمرة ألم شديد الوطأة. ألم ينجُم عن مواجهة رجُلين في الوقت ذاته، كلاهُما يملك قلبها وجسدها. ألمٌ ينبُع من خطيئة مؤجّلة تراها على بُعد قُبلات أو همسات في الأذُن أو حتى نظرات مُؤجَّجة بالشهوة يحجبها الخزي. تلعب المُخرِجة على فكرة امتداد الحب كخط طويل مكشوف، تسير عليه سارة بشكل عشوائي، للأمام وللخلف، وتوزّع الحُب والشبق على كُل الجوانب، مثل بندول معدني يتأرجح يميناً فيأخذ الزخم الكافي ليتحرّك نحو الجهة اليُسرى، وهذا يُفسّر لنا عدم ترجيح كفّة على الأخرى، فكلا الرجُلان مُفضّلان، رُبما ترتبط مع جان بعلاقة حقيقية لها واجبات وحقوق، لكنها في الوقت نفسه تقترب من فرانسوا كأن لها حبيبين، تحاول أن تخلق حدوداً للعلاقة، فلا ترضى التورّط في علاقة جسدية مع فرانسوا في بداية الأمر، لكنها لا تلبث أن تنخرط في عملية جنسية شبقية كاملة سيكون لها آثار على كلا الجانبين.
فالعمليّة الجنسيّة حفّزت شعوراً داخلياً لدى فرانسوا. شعور باستحقاق الحُب، وجدارة الحصول على قلب سارة وجسدها إلى الأبد، ما دفعه إلى المُكاشفة. عملية تقوم على الصدامية والتصدي للآخر كدخيل على دائرة مُغلقة، وجان الذي يرى حبيبته تنفلت من بين أصابعه بطريقة ملتوية إلى حضن أقرب أصدقائه وشريكه، يفور دمه لأن موقفه بالنسبة للعلاقة أصبح مُلتبساً، لا يعرف إذا كان حبيباً أم عدواً. وعلى الجانب الآخر سارة تُنكر كُل الأفاعيل، وتُبطل كُل محاولاته لإخراجها مُذنبة، لتتبدى في مظهر المرضى النفسيين. بُكاؤها وصراخها يُغلّفان عملية إنكار للحقيقة، ويضع المُشاهد في موقف ريبة، فهو الآخر يقع في موقع إلهي، يُراقب من بعيد، يعرف الحقيقة الغامضة، وتواجهه الصورة بالإنكار، فيتلبس شخصية جان المرتبك، المُشتت بين خيانة لعهد وقداسة المنظومة، وحُب وجمال المرأة التي يعشقها، لكنه يصل إلى نُقطة احتقار لسارة، كما يصل الجمهور. لا يفهم الدافع وراء الإنكار، إذا أرادت سارة الذهاب إلى فرانسوا فلتتجه إليه مُباشرة، وتخبره أنها ستعود إلى فرانسوا، بيد أنها تُقحمه في شبكة من الأفاعيل السامة، لأنها ــ بشكل غرائبي ــ تُحبه أيضاً. هل من المُمكن أن تُحب المرأة رجُلين في وقت واحد، بحيث لا تود إطلاق أي منهما إلى الفراغ، وتركه وراءها كماض، بل تبعث الماضي مرّة أخرى لأنه يهبها رجُلاً أحبته. في تلك النُقطة من السرد، يتضاعف التعقيد، لأنه لا يوجد شيء يُمكن القياس عليه، كُل ما نعرفه كمُشاهدين أن سارة مُشتتة بين هويّتين: الهويّة الأولى يُمكن حصرها في المرأة الوفيّة المُخلصة لحبيبها، الأكثر نضوجاً ومرونة وتقبلاً لتقلّبات الزمان، والهويّة الثانية تقع في حيّز عاطفي مُنفرط، بطبيعة تميل أكثر إلى المُجازفة والتضحية بالتوازن العاطفي من أجل نزوات وقتية ألقاها القدر في طريقها. ليس القدر فقط، لكن سارة ذاتها مُنجذبة ومُنقادة لفرانسوا بشكل يُجرّدها من الإرادة الحُرّة، لأنها لا تبغض جان بأي شكل، وتستمتع بالبقاء معه جنسياً أو عاطفياً، ولكنّ شيئاً غامضاً يقع في الماضي هو ما يجذب الأطراف لبعضها، ما يُنخر في العلاقة بين جان وسارة.
تُضيف دوني صبغة مُميّزة للفيلم، فتحوّل أجواء القصّة الرومانسية إلى مناخ مُضطرب أشبه بـ «النوار»، سواء من الناحية البصرية التي تتبدى بوضوح في تكوينات تنزع إلى الظِلال والظُلمة، خصوصاً في مستوى ممارسة الجنس، كأن الجنس رغم شبق وهيجان الأجساد، مُجرّد تواطؤ بين جسدين لا أكثر ولا أقل. تواطؤ ليلي يلفه الظلام وتحجبه الشهوة، لكنه لا يُعبّر عن يقين حقيقي سوى الرغبة الكامنة في الأجساد. اللُغة السينمائية ذاتها تتعاطى مع القصة بطريقة مُختلفة، وترسم ملامح مُختلفة للشخصيات، لنجد أنفسنا أمام جو مشحون مثل أفلام الجريمة والغموض. وهذا يُلقي بظلاله أيضاً على الشخصية المُضطربة للمرأة في الفيلم، ويُكثّف حضورها البصري أكثر في تكوينات ثقيلة. حتى في وسط الولوج الجنسي والذوبان في العمليّة الشبقية، يظهر نوع من التخفي اللحظي في الفعل.
يُمكن إدراج الكثير من أفعال البطلة داخل الفيلم تحت مُسمى التخفي والاختباء خلف طبقات، بداية من عمل سارة في محطة للراديو، وتفاعلها مع العالم صوتياً فقط. وهذا يمنح إشارة إلى خصوصية الشخصية، وعدم بوحها بكُل شيء، فالصوت وحده كتيمة لا يُفصح عن كُل شيء، والشيء الثاني هو ارتداء البطلة سارة للكمامة في أغلب الأماكن، لأن الفيلم صوّر خلال جائحة كورونا، لكنها على الجانب الآخر يُلمّح لشيء ما يعزل الشخصية عن العالم، ويخصص لها مساحة خاصة يتقاطع فيها الحبيبان بشكل مُستمر خلال الفيلم. وفي هذه المساحة، تستطيع سارة أن تظهر بكلّ تناقضاتها وشطحاتها وكذبها، بكلّ جسدها وعاطفتها، فهي مكشوفة أمام المُشاهد من خلال الحبيبين المتنافسين بشكل غير مُباشر.
على الجانب الآخر، هناك خط سردي آخر يتعاطى مع الإخفاق الاجتماعي الواضح لشخصية جان، كلاعب كُرة قدم اعتزل بسبب الإصابة، عاجز عن تحقيق مسيرة رياضية قيّمة، لينعكس ذلك على حياته الاجتماعية، في سلسلة من الإخفاقات، أوّلها فشله في المُحافظة على علاقته بزوجته السابقة، وثانيها التقاعس عن مُمارسة دوره كأب له واجبات تجاه ابنه، وتركه باستهتار لجدّته المُسنة لترعاه بدلاً من تحقيق منظومة أسرية صحيّة، إلى جانب مكوثه لفترات طويلة بدون عمل واضح، لنصل أخيراً إلى انهيار علاقته بحبيبته سارة. والحقيقة أنه يتبدى في النهاية كضحيّة لأنانية سارة المُفرطة ــ حتى لو على الجانب العاطفي فقط ــ وشهوتها العاطفية التي تلتهمه هو وفرانسوا معاً بحجّة الحُب والحُريّة.
كتبت كلير ديني السيناريو استناداً على رواية Un tournant de la vie للكاتبة كريستين أنغو، لتخلق عالماً أوتاره مشدودة ومحكوماً بعلاقة معقّدة تقودها امرأة تتلاعب بدون قصد برجُلين وقعا في الحُب. قدّمت جولييت بينوش أداء قوياً وشُجاعاً كالعادة، لتمنح الشخصيّة خصوصية جسدية وعاطفية، وتُحرر الكثير من المشاعر والرغبات المكبوتة والمتناقضة. فضّلت المُخرِجة أن تترك الفيلم مفتوحاً في النهاية، لا تمنح المُشاهد وجهة نظر نهائية ولا تُملي عليه قراراً، ولكن قبل ذلك صنعت حجّة ساذجة بإسقاط الهاتف الذكي في حوض الاستحمام، كإشارة لنسيان الماضي والتخلي عن الذكريات التي تسحب المرء للخلف. وحينما تذهب لمحل صيانة الهواتف، يخبرها الموظّف أن العُطل محى كُل بيانات الهاتف، ولكن في الحقيقة هُناك الكثير من الطُرق لرد البيانات مرة أخرى، ولكن الغرض من هذه الحركة مفهوم فنياً، ولكنه يبقى ساذجاً.