إنه بدون أدنى شك أحد أفضل الإنتاجات الأخيرة. يأتي فيلم «برا المنهج» (كتابة وإخراج عمرو سلامة) بمثابة رحلة لاكتشاف الذات والعودة إلى الجذور. الفيلم يعيد التذكير بجمالية الأفلام وحلاوتها بعد مرحلة كمونٍ مقارنةً بالمسلسلات التي باتت تأخذ حيزاً كبيراً من وقت المشاهد. لقد باتت الأفلام أضعف مقارنةً بالمسلسلات، وصار يُصرف على المسلسلات أضعاف ما يُصرف على الأفلام؛ لكن تأتي أفلام مثل «برا المنهج» لتعدّل الكفّة وتوازنها. تدور حكاية الفيلم حول فتى يبلغ ثلاثة عشر عاماً، يعيش في قريةٍ نائيةٍ في مصر، يدعى نور (عمر شريف) يناديه زملاؤه في المدرسة «عماشة» في إشارةٍ «لئيمةٍ/ شتائميةٍ» إلى ضعف بصره وارتدائه نظاراتٍ سميكة. يعاني «عماشة» الأمرّين في حياته. والداه ــ بحسب الظاهر ــ ميّتان، تربّيه خالته فوزية (دنيا ماهر) التي يعيش معها ومع أولادها وزوجها حنفي (أحمد خالد صالح) مدمن المخدّرات الذي يشبعها ضرباً إن لم تعطه الأموال التي بحوزتها. يضاف إلى هذه المعاناة، المدرسة التي يتعامل طلابها وأساتذتها مع نور بمنتهى القسوة والشدة والسخرية والتنمّر. يروي القصّة -كما سيلاحظ المشاهدون لاحقاً- «الشبح» أو «المراكبي» (ماجد الكدواني) وهو عبارة عن شخصٍ يرتدي ثياب شبح ويسكن في منزلٍ يقع بجوار مدرسة نور. وهذا المنزل يُسمى منزل الأشباح. منزل الأشباح الذي يسكنه المراكبي يخافه جميع سكان القرية، وهو يتّكئ على هذا الخوف والتطيّر ليعيش وحيداً في عزلةٍ تامة ومن دون إزعاج إلا في ما ندر من بعض الأطفال الذين يلعبون الكرة بجوار حائط منزله المهجور.
طبعاً، تبدأ القصة حين يلعب «نور» الكرة مع أقرانه لتقع الكرة بالخطأ في منزل الأشباح. سرعان ما يجبر الأطفال (في الفيلم إشاراتٌ كثيرة إلى تنمّر الأطفال بعضهم على بعض) نور على إحضار الكرة من منزل الأشباح المخيف والمرعب. «المراكبي/الشبح» يظهر على نور، الذي يرتعب كثيراً، ويضيّع «نظّارته» هناك، لكنّه للمفارقة يلاحظ بأنَّ «الشبح» يرتدي «زنوبة»، وهي ماركة شهيرة لنوعٍ من الخف البلاستيكي الرخيص الثمن. يسأل نور خالته وهي «تغسله»: هل ترتدي الأشباح/ العفاريت «زنوبة»؟ فتجيبه «أبداً، لأن العفاريت لديها أقدام ماعز».
الصبي شديد الذكاء، سرعان ما يقرر أن يذهب في رحلة البحث عن نظّارته، وفي الوقت نفسه سبر غور المكان وساكنه. هنا تبدأ القصة الحقيقية للفيلم: العلاقة الملتبسة بين «الشبح» والطفل الذكي الذي يشير الفيلم إليه بأنه يكذب كل الوقت. سرعان ما يصبح نور صديقاً للشبح، يعرّفه إلى مدرّسة الموسيقى جيهان (روبي) ويكتشف أنه شخصٌ معروف، وبأن لديه ابنة هي فريدة (أسماء أبو اليزيد) هجرها قبل سنواتٍ طوال. لكنّ الأجمل في الفيلم هو فكرة «برا المنهج» التي اشتقّ منها اسمه: إنها القصص التي يرويها المراكبي للطفل نور. يروي له حكاياتٍ تاريخية ذات مغزى: عن الفرعون أخناتون، عن صلاح الدين الأيوبي، عن محمد علي باشا. معظم هذه القصص تتناول ما لم يكتبه التاريخ حول هذه الشخصيات: فأخناتون حين أراد عبادة الإله الواحد، لم يحدد من هو الإله المعبود، وصلاح الدين لم يكن وسيماً أو فارساً بهيّ الطلعة، ومحمد علي باشا لم يكن يستحقّ أن يحكم مصر لأن من يجب أن يحكم مصر ينبغي أن يكون من أبنائها لا «محتلاً غازياً».


هذه القصص التي يقدّمها الفيلم بأجمل طريقة وأكثرها لطفاً، تجعل القصة ذات عمق إنساني، خصوصاً أنَّ المراكبي ونور يخلقان تلك العلاقة الشديدة الدهشة، فكلاهما لا يجيدان التواصل مع أحد أو حتى مع نفسيهما. إنهما يخلصان في لحظةٍ ما إلى أنَّهما من النوع نفسه: «كاذبان» وفاشلان حتى في الكذب. هذا الاكتشاف الحزين يقودهما في لحظة ما إلى الغضب من نفسيهما، لكنّ سرعان ما نكتشف أن ما يحدث آنياً ليس نهاية الأشياء، وأن هناك دائماً مفاجآت مخبّأة لا يعرفها أحد. يمكن الحديث مطوّلاً عن قصّة الفيلم واكتشاف الذات الذي يمرّ به البطلان قبل وصول الفيلم إلى نهايته وتعقيداته: فما هو بائن وظاهر، ليس الحقيقة: الشبح ليس شبحاً، والطفل «ذو النظر الشحيح» يرى أبعد من الأطفال والكبار المبصرين. الأطفال ليسوا ملائكة كما تحاول غالبية الأعمال الدرامية والقصص والروايات تقديمهم. يتنمّر الأطفال بعضهم على بعض بشكلٍ يومي في أي مكانٍ يتجمّعون فيه، وقد أدّى التنمر والاستقواء إلى حالات مؤذية وحزينة أدى بعضها إلى رفض الأطفال العودة إلى المدرسة، أو أماكن اللعب. حتى وصلت في بعض الحالات إلى انتحار بعض الأطفال. يعرّي الفيلم هذه الفكرة، ويقدّمها من دون أن يغرق فيها. في الوقت نفسه، يقارب تعلّق الناس بالخوارق، فارتباط الطفل بالشبح الموهوم، يجعل أهل القرية بأكملها يريدون «بركاته» وبركات «شبحه»: ولا يشذ عن هذه القاعدة مدرّسوه أو حتى مدير المدرسة. وحدها معلّمة الموسيقى لا تطلب شيئاً. إنها الوحيدة التي يشعر نور بأنه يستطيع تعريفها بالشبح، ذلك أنّها الوحيدة التي لم تطلب شيئاً لذاتها، بل جلّ ما طلبته هو «تصليح بيانو المدرسة المعطّل». أمر آخر يقاربه الفيلم هو العلاقة مع الحقيقة والكذب، فالكذب الذي يبدؤه نور، سرعان ما نفهم أنّ المراكبي مارسه، ولا يزال يفعل عبر لعبه دور الشبح. لقد كان في السابق شبحاً شهيراً، يكذب على الناس، ثم استحال شبحاً في قريةٍ صغيرة، بإرادته واختياره. كذب تستعمله ولا تزال وسائل الإعلام والأنظمة في سبيل تقديم صورةٍ غير حقيقية عما حصل وما يحصل. طبعاً هناك نقطة واحدة يمكن اعتبارها من أخطاء الفيلم، هي محاولة استجرار تجربة النكسة وإعادتها إلى الواجهة بصفتها أسوأ ما حدث، وهذا يناقش كثيراً، إذ إن تلك المرحلة -على سوئها- حدثت وكانت فاتحة لمرحلةٍ جديدة، ولولاها لما حدث عبور خط بارليف وإعادة سيناء لمصر. وهذا النوع من النوستالجيا البكائية، نجده في كثير من الأعمال المصرية باعتبار تلك الهزيمة نهاية العالم. ولا ريب أن أغنية «عدّى النهار» لعبد الحليم حافظ التي كتبها الشاعر المصري الكبير صلاح جاهين أبرز تلك الأعمال التي كانت بمثابة «ثيمة» لتلك الروح التي شاهدنا بعضها في تفاصيل الفيلم.
تكمن مهارة المخرج عمرو سلامة في اختيار الممثلين


أدائياً، يمكن القول بأنّ مهارة المخرج سلامة تكمن في اختيار ممثلين أدّوا بحرفةٍ ما يمكن اعتباره دور الموسم بالنسبة إليهم. ماجد الكدواني ــ وقد لا يعرف كثيرون ـــ واحد من أفضل المؤدّين المصريين وإن لم يحقق نصيبه من الشهرة حتى الآن. بداية الكدواني الحقيقية كانت في فيلم «طير انت» (2009) حين أدّى أمام أحمد مكي دور العفريت الذي يحقق الأمنيات وإن مقلوبةً ومشوّشة. لاحقاً، عاد الكدواني وأثبت علو كعبه مع فيلم «قبل زحمة الصيف» (2015) ولو أنَّ الأخير لم يحقق النجاح المطلوب. الكدواني عملة نادرة من الممثلين لا يتكئ نهائياً على شكله، بل على أدائه المرتفع، وقدرته على تجسيد الشخصية، وهذا يُحسب له كثيراً. وكعادتها منذ ظهورها المدهش في مسلسل «رمضان كريم» قبل أعوام، لا تزال روبي تحافظ على أدائها الخاص والمتميز بعيداً عن «الإغراء» الذي قدّمته في كليباتها الغنائية عند بداياتها. بدا أداء روبي في الفيلم رقيقاً وهادئاً، أعطت دور معلمة الابتدائي الموزونة والمحبة. الأمر نفسه لناحية الأداء المتوازن ينسحب على أسماء أبو اليزيد. منذ أدائها المذهل في مسلسل «ليالي أوجيني» (2018، إخراج هاني خليفة وكتابة سماء عبد الخالق وإنجي قاسم)، لم تنظر أسماء خلفها وانطلقت لتكون واحدة من نجمات جيلها. عمر شريف بدوره أدّى بحرفة بالغة تليق بالكبار. عمر عرفه الناس بعد هذا الفيلم مع مسلسل «البحث عن علا» (إخراج هادي الباجوري وكتابة غادة عبد العال ومها الوزير) الذي قدّمته شبكة نتفليكس، وكان من بطولة النجمة التونسية هند صبري. وفي الفيلم مفاجأة جميلة تتمثل في ظهور الممثل أحمد أمين ضيفاً في مشهدين قصيرين، لكنهما كانا كافيين لنشهد مهارة أمين الأدائية، خصوصاً بعد إبداعه في بطولة مسلسل «جزيرة غمام» (إخراج حسين المنباوي وكتابة عبد الرحيم كمال) خلال الموسم الرمضاني الأخير.

* «برا المنهج» على «شاهد»