عندما ترتقي السينما، عندما لا تكتفي بأن تكون ملجأً أو مهرباً أو حيّزاً للترفيه... عندما تسمو لتكون حلم يقظة، جداراً عالياً لعزل أنفسنا، عندما تكون شخصية جداً لكن غير أحادية، تنقلنا إلى عالم آخر بعيد، بطبائعه المختلفة، حيث تحشد شعوراً لا يمكن التعرف إليه... في هذه الفسحة، نجد أفلام محمد سويد. بعد 18 عاماً من العمل على فيلمه «يوم بلا غد» الذي عُرض أخيراً ضمن «أيام بيروت السينمائية»، لم يصنع سويد فيلماً لنفسه. لم يكن أنانياً، بل صنع فيلماً لنا، ملكنا إياه وائتمننا عليه. شريط لم ينته ولن ينتهي، نتخيله دوماً موجوداً في غرفة بيضاء فارغة إلا منه ومن أصوات شخصياته وراويه (فادي أبي سمرا) وصوره في بيت كبير أبيض فارغ. في تلك الغرفة فقط، نجد الواقعية والوعي والأمانة والطمأنينة والحنين التي تتسلّلت إلينا ونتيقّن منها لبرهة، ثم نخرج حاملين على أكتافنا غبار الفيلم المتناثر من الضوء على الشاشة. «يوم بلا غد» دائم الوجود في هذه الغرفة، وفيها ينقل سويد عواطفه وأفكاره وهواجسه وملاحظاته، وقبل أي شيء حبّه اللامحدود للسينما ولأصدقائه ولسعاد... سعاد حسني. بعدما فشل سويد في إنهاء معاناته مع الأرق، طلب من أصدقائه أن يقصّوا عليه حكاية، على أمل أن تمنحه نوماً هانئاً. ثماني عشرة سنة أمضاها سويد يستمع إلى حكايات أصدقائه (فادي أبي سمرا، نديم جرجورة، ميرنا شبارو، ريما مسمار، تامر السعيد، زياد عنتر...)، ليضمّنها كلها في فيلم وثائقي. لم تنجح محاولته. ظلّت هذه القصص تطارده لسنوات. ولأن سويد لا ينام، استحالت القصص نوعاً من أحلام يقظة، وتحولت إلى فيلم بلا نهاية ينحو في مسار مفعم بالأمل والذاكرة والحنين، حيث تتشكل الصداقة والحب والحميمية والشوق في كلام ولغة، بينما نشاهد أصدقاءه وهم يحثّونه على النوم.
ثلاث ساعات قضيناها مع سويد وأصدقائه، قد تكون طويلة، لكن لم تكن هناك لحظة مملة، على الرغم من غياب السرد التقليدي. بسرعة نجد أنفسنا مستغرقين في أنماط وتفاصيل حيث يظهر المعنى مثل الفسيفساء، كل ثانية تخبرنا شيئاً من خلال الصور والأصوات والإيماءات ويتحقق التواصل سريعاً. سويد يعرف تماماً ماذا يريد من السينما وكيفية تطويعها لتلائم طريقة تفكيره. خلق مساحةً من التفسير والنمو للقصة بعيداً عن حدود شاشتها. يعرف كيف يعرض ما تراه شخصياته وما تفكر به وما يراه هو وكاميراته. يفهم فلسفة السينما والكاميرا التي يعطيها وجوداً ذاتياً، ومنها يعرف كيف يضع «الحقيقة» و«الخيال» في أزمة كبيرة. «يوم بلا غد» يتجاوز بكثير الأسلوب البسيط في التوثيق أو التسجيل، لا يعطينا سويد بضع ثوان للتفكير في اللقطة التالية، فجأة ينتقل من مشكلات آلام جسد نديم جرجورة، إلى تفسير دقيق عن شكل المؤخرات وأهميتها، ثم درس في علم النفس. بعد ذلك، يحكي لنا فادي أبي سمرة قصة حب مينيرڤا وعبد السلام، لنجلس بعدها مع تامر السعيد الذي يحدثنا عن لقائه غير المتوقع بسعاد حسني. يحدثنا سويد بعدها عن شقيقه وفلسفته للسينما وحبه لها، وسفره والأماكن. مواضيع وقصص كثيرة لا يمكن إحصاؤها شاركنا بها سويد في هذه الساعات الثلاث، بينما يغير الزاوية والمساحة للحصول على تغطية أكثر اكتمالاً وثراء من الناحية السينمائية، فاستخدم الإطار لإخفاء التفاصيل وكشفها، وغالباً ما ابتعد عن اليقين المعرفي إلى شيء أقرب إلى الشعرية السوريالية. «يوم لا غد» استفزازي في ملاحظاته للتفاصيل. تؤدي هذه الحرية في النص إلى ميل الوثائقي والموضوعات إلى التشتّت أكثر من التماسك، لكن حتى ذلك لم يؤذ الفيلم، بل هناك جودة في الطريقة التي تعامل بها سويد مع القصص والأصدقاء والكاميرا والمساحات والأماكن الضيقة والضوء والصوت. حتى عندما يبدو أن الأصدقاء كأنهم مجرد أجزاء متحركة في هذه الشاشة الكبيرة، فإن كاميرا سويد تسجل فرديتهم. في كل لحظة من الفيلم، هناك صدق وسمو فكري وسينمائي نادر في بانوراما السينما العربية، فكل ثانية في الفيلم لا حدود لها وكل لقطة تشي بالمزيد، فالسينما لعبته وغرفة المونتاج ملعبه.


«يوم بلا غد» يدور حول «الحدوتة» التي نسمعها والأصدقاء الذين يشرعون في صنعها. وسويد جدلي بارع، يحب التبديل بين العام والخاص، ما يخلق نوعاً من تأثير الأكورديون في حركة الفيلم حيث تسمح المساحات الضيقة والواسعة والطرقات والمباني أمام الأشخاص وقصصهم ليكونوا جزءاً لا يتجزأ منها، فلا نعود بالإمكان تخيل الحكاية نفسها تُروى من شخص آخر في مكان آخر. لذلك، يكتسب الفيلم نوعاً من البصيرة الأنثروبولوجية، بدءاً من ألغاز علم النفس إلى مؤخرات النساء المختلفة. عندما يتحدث الأصدقاء في الفيلم، فإنهم لا يشرحون لنا، أنهم يعبرون عن أنفسهم لنا ولسويد. نحن لا ننصت فقط لمعرفة ما يحدث، ولكن أيضاً للانتباه إلى المصطلحات والإيقاعات الموسيقية للكلام والإيماءات الجسدية. فسويد مراقب سينمائي، يعرف كيف يصور أصدقاءه وهو أيضاً مستمع جيد.
طريقة سويد في المونتاج، واضحة تماماً في هذا الفيلم بعيداً عن فكرة وضع الطوب فوق بعضها، بما يعني أنّ المونتاج يتعلّق فقط بربط قطع مختلفة ببعضها. فسويد أقرب إلى طريقة اصطدام قطع مختلفة ببعضها بقوة، ويمكن أن يؤدي هذا إلى تناقض في أساس الفيلم، لكن في حالة سويد، فإنّ السينما من خلال المونتاج تصطدم بهذه القصص والأصدقاء وتقدم مفاهيم جديدة عنها. تكمن قوة الفيلم هنا بالتحديد في تحويل شوائب كل فكرة أو لقطة أو كلمة إلى فكرة بحد ذاتها. ومن خلالها يأخذنا سويد إلى واقعيته في السينما التي هي ليست الأشخاص أو الأشياء الثابتة، بل الحركة، التي هي دائماً في تغيّر مستمر في سينما سويد. لذلك الواقعية التي تظهر في هذا الفيلم هي حقيقية الإيماءات والأحداث والقصص التي «تحرك أفكارنا» وعلاقتها بحركة الجسد والكاميرا ولو كانت ثابتة، والوقت الطويل الذي أخذه المخرج لإنهاء فيلمه. كل هذه الأفكار والإيماءات والقصص وحتى كاميرا سويد غارقة في الميلانكوليا الواقعية التي تكمن في حركة سويد مع فيلمه وداخله. وهذه الحركة تتخذ شكلاً دائرياً، ألمح إليه سويد كثيراً في فيلمه وحتى تكلم عنه كثيراً. هذه الحركة تمثل الأشياء الناعمة، التي تعبّر بشكل رمزي عن الاكتمال والتوازن واللانهائية.
كاميرا غارقة في الميلانكوليا الواقعية التي تكمن في حركة سويد مع فيلمه وداخله


«يوم بلا غد» فيلم دائري ميكلانكولي، لا ينتهي أو ينتهي حيث بدأ، أو بدأ حيث انتهى. هذه الحركة الدائرية المثلى التي تميّز سينما سويد، تعدّ التجلّي الأسمى لما لا يمكن قوله أو التعبير عنه أو تخيله أو إيصاله إلا عبر السينما. يستمر الفيلم إلى هذه اللحظة بتقديم جرعات من الحنين والحب على مدى التسلسل الزمني الذي لا تحده الشاشة ولا الزمان ولا المكان. بين سويد والسينما ونحن، علاقة متراوحة بين الأماكن، لا تفرّقها حدود. فيلمه لا يزال في تلك الغرفة البيضاء شرحها لنا سويد وقالها بوضوح: «السينما منها عالمية، السينما بيت، والفيلم غرفة بهيدا البيت». لذلك شريط «يوم بلا غد» في كل بيت وشارع وبداخل كل منا، لن ننتهي منه ولن ينهيه محمد سويد.

* «أيام بيروت السينمائية»: حتى 19 حزيران (يونيو) ـــــ «سينما سيتي» (أسواق بيروت)، «دار النمر» (كليمنصو)، «مؤسسة اتجاهات – ثقافة مستقلة» (مار مخايل)، «مسرح وسينما إشبيلية» (صيدا)، والقبيات، وشبعا، والهرمل، وعربصاليم، والجيّة، و«مركز العمل للأمل» (بر الياس) beirutdc.org/ayam