في الفترة الأخيرة، حدثت طفرة هائلة في نوعية أفلام الرُعب من حيث الشكل والمضمون. يكمُن التغيير في إمكانية التعاطي مع الثيمات القديمة ذاتها؛ لكن بشكل أكثر نضوجاً وجمالاً، بحيث تظل الأنواع المُتفرّعة من الرُعب Sub-Genres تحتفظ بموتيفاتها الأساسية. بيد أن توظيف تلك الموتيفات في السياق السردي، أصبح أكثر ذكاءً على مستوى الحبكة، ليُشارك في خلق مُنتج إبداعي يحمل في طبقاته دوافع منطقية، ليجمع مع الوقت شكلاً مُخلصاً للنوعية (لأنّ الشكل في أفلام الرُعب هو ما يُحدد النوعية) وحبكة جيدة تقوّي الحدث الرئيسي. تلك التفاصيل هي التي تصنع النقلة التي نتحدث عنها. فالأفلام القديمة التي شكلت النوعية، وتُعتبر اليوم من كلاسيكيات الرُعب عندما كان في أوجه، مثل Texas Chainsaw وThe thing وغيرهما، هي التي حدّدت الروافد التي خرجت منها تفريعات مثل رُعب الجسد وآليات التقطيع. بيد أن نوعية أفلام الرعب في عصرها الذهبي، لم تتعرّض بشكل عام للحبكة بمنهجية جديّة، بل كشيء عارض غير ضروري، بحيث يُهيئ الفيلم شخوصاً ليتم التخلّص منهم لاحقاً. أي أن الأفلام في ذلك الوقت، كانت تتمركز حول الجسدي والمادي فقط، عكس فيلم «أكس» (2022 ـــ إخراج تاي ويست) الذي نتحدث عنه اليوم. يتأرجح «X» بين صناعتين في عصرهما الذهبي؛ يتّخذ من صناعة الأفلام الإباحية مدخلاً وإشارةً لصناعةٍ أخرى كانت في أوجها، أي صناعة أفلام الرُعب التي تحولت في ذلك الوقت إلى Cult لها مُريدوها ومُعجبوها. المُشترك بين الصناعتين حينها، أنها إنتاجات مُستقلة بدائية الصُنع ذات ميزانية ضئيلة. لذا، فاختيار مُخرِج الفيلم ومؤلفه تاي ويست لتلك الحقبة الزمنية، خصوصاً عام 1979، لم يكن محض مصادفة. فحقبة السبعينيات والثمانينيات هي حقبة انفتاح وتآكل للبنى الوعظيّة والدينية التي كانت تحكم ما قبل الحداثة والحروب العالمية، أي أنها تحمل بين طيّاتها إشكاليات متنوعة: إشكالية الانفصال عن السُلطة الدينية والاتجاه إلى الوجودية، وهذا يُمكن رصده خلال العصر الذهبي للأفلام الإباحية الذي انطلق منذ نهاية الستينيات حتى منتصف الثمانينيات، وإشكالية البحث عن الذات والهوية، وهو ما يُمكن رصده من خلال الشخصية الرئيسية في «أكس» ماكسين (الممثلة ميا غوث) التي تنظُر إلى نفسها كرمز جسدي للجنس لا أكثر ولا أقل. لكنها، من جهة أخرى، تُريد أن تُحقق ذاتها كُليّاً داخل مُجتمع مُفكك، وتسعى بكُل الطرُق إلى التحوّل من فتاة مغمورة إلى نجمة شهيرة. هذه الصدامية والتناقض هما ما يطبعان الهوية المابعد حداثية.
على الجانب الآخر، فالتاريخ له أثر مهم في سرديّة الفيلم، لأنه كما ذكرنا، شهدت تلك الحقبة تحديداً، إدراج العُنف في أنواع سينمائية مُستقلة عن الرعب، فشكّل العنف مدلولاً فنياً يعكس الحالة الاجتماعية والسياسية. أشهر تلك الأفلام كان A Clockwork Orange لستانلي كوبريك، إلى جانب موجة أفلام أشرطة الفيديو التي شاعت في المملكة المُتحدة تحت اسم Video nasty films التي تم منعها أو على الأقل تمريرها تحت مقص الرقيب قبل طرحها للعامة. كُل هذه الحركات والتوجّهات تتقاطع مع ذكر التاريخ التي تدور فيه أحداث فيلم «أكس». ورُبما هذا ما أسّس لحبكة دراميّة حقيقية، وأجواء ذات طبيعة مفهومة، ليُعيدنا إلى حقبة زمنية دموية على المستوى السينمائي. لكن في مُقابل سطوة العُنف وتفشي الأفلام الإباحية وأفلام الرُعب، ومع انسحاب البساط من تحت مؤسسات السُلطة الدينية، يزداد التعصب الديني بشكل يُناقض تلك النزعة للانفتاح ويحاول دحضها. يطوّع المُخرِج جهاز التلفزيون ليُشير إلى عائلة مُحافظة وفي الوقت عينه يخلق شيئاً أشبه بنبوءةٍ تستمد قوّتها من اللاهوت والفهم الديني للنص المُقدس. نبوءة بهلاك «الخطّائين» و«الفاحشين»، فيربُط بين العائلة صاحبة النُزل، ومجموعة الشباب المتلهّفين للحياة والمال والشُهرة، والقائمين على صُنع فيلم إباحي يتعارض كُلياً مع صوت المُبشّر والواعظ في المنزل المجاور. هذا التضارب الأخلاقي هو نوع من الحدس بالمُستقبل، التذكير بما سيحدُث، فنرى جُثثاً مُقطّعة وأشلاء في المشهد الافتتاحي، وفي الخلفية يدور التلفزيون بصوت المُبشر متوعّداً للآثمين. على هذا النحو، يتجاوز «X» نوعيته كفيلم تقطيع Slasher ويوغل في سرديّته نحو طبقة دينية تحمل النقيض، وتحفّز على فعل التطهير. يدور الفيلم حول مجموعة من الأشخاص الذين يستأجرون منزلاً ريفياً في منطقة نائية في تكساس من أجل تصوير فيلم إباحي برفقة شابين متأثّرين بالسينما الطليعية، يحلُمان بتحقيق فيلمٍ إباحي بمعايير سينمائية عالية. من الوهلة الأولى، تحظى الشخصية الرئيسية ماكسين باهتمام مُضاعف من قِبل مُنتج الفيلم واين (الممثل مارتن هندرسون) الذي يأخذها كعشيقة له رغم فارق السن بينهما، ويَعِدها بنجاحٍ عظيم كبطلة لفيلمه. لكن حين يصلون إلى المنزل الموعود، يُصدمون بنزعة مُلّاك المنزل العدوانية تجاههم: العجوز هاورد (الممُثل ستيفن أور) وزوجته بيرل (الممثلة ميا غوث نفسها هي التي تمثّل دور الشابة والعجوز) زوجان في أرذل العُمر، يتّسمان بميول هجومية وخطاب مُحافظ وتقليدي ومظهر مُخيف، لكنهم يستأجرون المنزل على أي حال، ويشرعون مباشرة في تصوير الفيلم.
يُصعّد تاي ويست الدراما ويدفع الحبكة عبر ثُنائية أنثوية: العجوز الهرمة والشابة اللعوب الفتيّة، حديثة العهد بالدُنيا. ومن خلال ذلك التصعيد، يُحرّك حُمّى التوجس في الجو العام، فالأمر لا يقتصر على اختلاف الأجيال الذي أشرنا إليه سابقاً، وتناقض منهجيّات التعاطي مع الحياة بين شخصيّة مُحافظة وتقليدية شهدت أهوال الحرب وتجرّعت مرارتها، وشخصيّة أخرى لا زالت تمور بالحياة وتنتفض بالوجود والشباب. بل تتجاوز ذلك لتطال ما يُسمّى رُعب الجسد الذي لا يتوقف ــ في هذا الفيلم ــ عند مشاهد التقطيع والبتر الوحشية والتشوهات، ليجتاز النزعة البيولوجية المادية الصرفة، وينطلق من الجسد كرمز للخيبة والضياع. يتغلغل نفوذه في التغيّرات التي تحصل للجسد، ليخضع للتماثل والتباين بين طرفي صراع مجازيين. فالرؤية المعاصرة للخوف، لا تتقيد بمحدودية الموت كنهاية حتمية، لكنها تنتقل إلى الجسد كوعاء، أي أن الخوف الحداثي اتسع ليشمل الشيخوخة ويطوّرها كدلالة على العجز والإخفاق عن تحقيق الرغبات.
شهدت حقبتا السبعينيات والثمانينيات انفتاحاً وتآكلاً للبنى الوعظيّة والدينية

المُقارنة هُنا جسدية، بيد أنها تحمل أكثر من المادي، صحيح أنها تنحدر إلى جانب جنساني يُفتّش عن الرغبة، لكنها تطوّر طبقة سردية لها أساس تاريخي واجتماعي، تشحذ شعوراً بالكراهية والحسد من الطبقة المُحافظة تجاه الطبقة المُنفتحة التي، بالنسبة إليها، تحظى بكُل شيء: الشباب والطاقة والمُتعة في ذروتها الأكثر جنوناً كمادة للأفلام الإباحية، رغم أن هذا الجيل لم ينفلت من ويلات الحرب بشكل كامل. في الوقت نفسه، ترى الصبيّة ماكسين في العجوز بيرل نفسها بعد سنواتٍ عجاف، ترفُض بداخلها هذا العجز والقطيعة عن حياة الأضواء والمدينة والانزواء في مزرعة ريفية، إنما من السهل التوفيق بين رؤيتها لذاتها كأداة جنسية ونهايتها كعجوز «شمطاء»، لأن الجسد في تغيّر دائم. وهو يظهر في الفيلم في النهاية كصراع بين جيلين: جيل وطأته الحياة، وجيل ما زال يملك من الشباب ليُناطح الحياة ويكسر شوكتها. إلى جانب ذلك، يرصُد الفيلم علاقة وطيدة بين النشأة الدينية المُحافِظة، والنزعة الجنسية الجامحة كرمز للتمرّد على الكبح الديني المُقدّس للرغبة في أشد أشكاله هياجاً وتحدياً، خصوصاً مع معرفة أن ماكسين الفتاة الجامحة هي ابنة المُبشّر والكاهن الذي يصدح صوته في التلفزيون، مُذكّراً ومتوعداً للـ «آثمين». قدّم الفيلم الكثير من الإشارات إلى أفلام رُعب كلاسيكية مهمة كتحية لأصحابها، مثل The Texas Chainsaw Massacre وThe Shining وPsycho وغيرها.