إذا كان هناك فيلم واحد يتفق الفلاسفة على أهميته، فلن يكون سوى «ماتريكس» (1999 ـــ ثم جزءاه التاليين في عام 2003). أهم أعمال الثنائي واتشوسكي منجز فنيّ استثنائيّ بكل المقاييس بُني على أساس سردية محكمة، فُخخت بذكاء بثيمات فلسفيّة عدة، وطرحت الأسئلة الكبرى، ورسمت صورة كالحة عن مستقبل حياتنا الرقميّة على بوابة عصر الإنترنت، إن لم تشكلها على نحو أو آخر. في 22 من الشهر الحالي، سيعود ماتريكس في جزء رابع بعد أكثر من عقدين. وأياً كان ما يحمله هذا الجزء الجديد، فإن المنتجين يمكنهم أن يطمئنوا تجاريّاً إلى قاعدة جماهيرية وفيّة، من المهووسين بالعالم السيبيري إلى مجتمع المتحولين جنسياً، ومن الماركسيين إلى المتفلسفين، ومن الوجوديين إلى منظّري عالم ما بعد الحداثة. «ماتريكس» قد لا يكون بعمق «جمهوريّة» أفلاطون أو «تواريخ» هيرودوتس أو كوميديا دانتي الإلهيّة النخبويّة الطابع. لكنّ الأكيد أنّه أوصل أسئلتها الفلسفية الحادة إلى حيث الأغلبيّة الغافلة، ونقل إليها الرّسالة بأمانة: استيقظوا أيها البشر واخرجوا من كهوف أوهامكم
في المشهد الأكثر شهرة من فيلم «ماتريكس»، يقف مورفيوس (يلعب دوره لورانس فيشبورن) وفي كل من راحة يديه حبّة ملونة، إحداهما زرقاء والأخرى حمراء. يقدم لنيو (كيانو ريفز) خياراً بينهما. نيو لا يعرف حتى ذلك الحين أنّه يعيش حياة موهومةً داخل مصفوفة رقميّة صمّمتها آلات ذكيّة لاستعباد الجنس البشري. مورفيوس ينتمي إلى ثلّة من المقاومين مصممة على تحرير البشريّة، ويعتقد مخلصاً أن نيو هو «المُختار» للقيام بذلك، في إشارة توراتيّة محضة. يقول له: «تأخذ الحبة الزرقاء، وتنتهي القصة، وتستيقظ في سريرك وتصدق ما تريد» أو «تأخذ الحبّة الحمراء، وتبقى في بلاد العجائب وتستكشف إلى أين ستأخذك حفرة الأرنب (اللانهائيّة المتخمة بالمفاجآت)» رمز مستعار من رواية «أليس في بلاد العجائب» الشهيرة.
بالطبع، فإن مورفيوس كان يعرض على نيو الاستمرار في حياة الوهم السيبيريّة حيث الهدوء والدعة والاستقرار والمتع (تخيّل دبي مثلاً)، أو اختيار كسر الوهم ومواجهة صحراء الواقع القاتم. نيو يأخذ الحبّة الحمراء ويستيقظ في وقت ما من القرن 22، حيث يعيش البشر فرادى داخل كبسولات تنتج الطاقة لمدّ آلات الذكاء الاصطناعي الضخمة التي تبقي البشر أسرى وهم العيش الرغيد داخل المصفوفة الرقميّة كي تعمى عيونهم عن هذا الوجود الحقير الذي لا يطاق، فلا يقاومون.
أصبح «ماتريكس» فور إطلاقه واحداً من أهم وأنجح ما أنتجته هوليوود على الإطلاق. وإذا كان تعريف الكلاسيكيّات بأنّها تلك الأعمال التي بعدها لا يمكن تخيّل العالم من دونها، فإنّه اكتسب تلك المكانة أسرع من أيّ فيلم آخر. تابعه بشغف كما أجزائه التالية ـــ الأقل قيمة نسبيّاً ــــ جمهور عريض متنوّع. وما زال موضوعاً للمشاهدة والجدل حتى وقتنا الراهن. اليوم، تمتد ظلال «ماتريكس» – الظاهرة الثقافيّة - إلى كل جوانب الحياة في القرن الحادي والعشرين: من الموضة إلى الفلسفة، ومن النقاشات حول الهيمنة إلى شكل مخاوفنا من التطوّر المتسارع للذكاء الاصطناعي، ومن غرف الدردشة إلى أروقة الجامعات، ومن الغرامشيين (نسبة إلى المفكر الماركسيّ أنطونيو غرامشي) إلى الديبوريين (المفكّر الفرنسي غي ديبور).
قدم «ماتريكس» نوعاً عالي التشويق من ديستوبيا تامّة لحظة منعطف تاريخيّ من تاريخ البشريّة المعاصر: طرح ملهم بصريّاً لمفارقات العصر الرّقمي قبل أن تتشكل أمامنا تالياً. وهناك مقابلة للثنائي واتشوسكي لـ «نيويورك تايمز» عام 1993 بينما كان العمل جارياً على سيناريو «ماتريكس» يقولان فيه بأنهما يحضّران عملاً عن «شيء» جديد يسمى «الإنترنت». فسّرت «التايمز» وقتها لقرائها بأنّ الإنترنت هذا «شبكة عالمية كثيفة بشكل لا تصدق مكونة من 1.7 مليون جهاز كمبيوتر، ستكون مغامرة التكنولوجيا التالية». والنتيجة كانت مذهلة، إذ لا يوجد بالفعل نص مؤسس لحقبة الإنترنت في كل إنتاجات الثقافة الشعبيّة أكثر من «ماتريكس»، فكأنّه نسخة بصريّة من كتاب مقدّس للتائهين في متاهة العالم السيبيري. يسجّل «ماتريكس» ذلك المنعطف التاريخي على لسان مورفيوس متحدثاً إلى نيو وهما في صحراء الواقع القاحلة في القرن الثاني والعشرين: «لم تكن لدينا سوى أجزاء وقطع متفرقة من المعلومات والمعارف، ولكن في مرحلة ما أوائل القرن الحادي والعشرين، البشرية جمعاء اتحدت في الاحتفال: لقد أطلقنا وقتها الذكاء الاصطناعي، وهو مستوى وعي فريد سرعان ما خلق جنساً كاملاً من الآلات الذكيّة».
يرى جان بودريّار أنّ طوفان المعلومات أدى إلى «اغتيال المعنى»، فتدور جميع الأحداث في إطار التأويل


من الوعود التي طرحها «ماتريكس» فكرة أن الإنترنت سيقدّم تجربة عيش مختلفة عن شخصياتنا الحقيقيّة من خلال إمكان بناء عدد لا نهائيّ من الشخصيّات الافتراضية. علماً أنّ أكثر من 80 في المئة من بروفايلات النساء على الإنترنت هي لرجال وفق بعض الدراسات، بغض النظر عن العِرق، أو الجندر، أو الحالة الاجتماعية، أو الطبقيّة، أو الموقف السّياسي/ الثقافي. وفي «ماتريكس»، هناك بالفعل سيولة في الشخصيات تظهر بأشكال ودرجات مختلفة عند انتقال الأبطال بين عالم محاكاة الماتريكس و«صحراء الواقع». الفكرة الفلسفيّة كانت ببساطة أن الفرد عليه أن يبحث عن نفسه التي يرتاح إليها، ويخرج من الصندوق الذي قد يفرضه عليه المجتمع أو الآخرون. ولسنا متأكدين اليوم إذا ما أسهم «ماتريكس» في نشر اعتقادات مثل الافتخار بالمثليّة، أو تقمّص دور الجنس الثالث الذي أصبح متداولاً اليوم على نطاق واسع (في بريطانيا كان عدد متحولي الجنس المسجلين عند إطلاق «ماتريكس» لا يزيد على 2000 شخص، وحالياً يبلغ أكثر من نصف مليون شخص). لكن الفيلم يعدّ نقطة تحوّل ثقافيّة لمصلحة المتحولين جنسياً في فضاء الثقافة الشعبيّة، لا سيّما أن الثنائي واتشوسكي الذي أطلق الفيلم كأخوين ذكرين (أندي، ولاري)، خرجا من الصندوق لاحقاً وأعلنا عن تحولهما إلى إناث (ليلي 2012، ولانا 2016، والأخيرة أخرجت وحدها الجزء الرابع من «ماتريكس»). وهما دائماً في كل أعمالهما قدّما/ تقدّمان تلوينات حول ثيمة كبرى بارزة: الوعد بالهروب من واقع ما والتجدّد في نسق مبتدع بالكليّة. إذ علينا أن نجد باباً أو نتخيل مخرجاً من هذا العالم، إلى عالم مختلف. ومن أجل تجربة هذا العالم الجديد، ينبغي أن ندع وراءنا افتراضاتنا التقليدية وتوقعاتنا القياسية، وننطلق في رحلة استكشاف إمكانيات جديدة تنتهي إلى إنتاج نسخ محدثة منا.
استلهم الواتشوسكيون سرديتهم الأساسيّة لـ «ماتريكس» من محاججات كلاسيكيّة في الثقافة الغربيّة بداية من سقراط وأسئلته التي تثير التناقض، وحكاية أوهام الكهف الأفلاطونيّة عن طبيعة المعرفة، كما عرّافة ديلفي من الميثولوجيا الإغريقيّة، ومورفيوس إله الأحلام، والمختار العبراني – لأسباب غير مفهومة مرتبطة ربّما بوراثة الدّم الأزرق – الذي يخرج من دنيا الوهم عندما يصعد إلى الجبل، فيرى الله ويقود قومه من حياة الرفاه الذليل في مصر إلى صحراء الواقع في سيناء. بعدها سيكون هناك عالم جديد يتشكّل، وبالطبع أيضاً سلسلة من الأفكار الفلسفيّة من ديكارت إلى بونتام حول إمكان معرفة الحقيقة. ومع ذلك، فإن كولاج هذه الرّموز والمرجعّيات المتشابكة – تماماً كما يليق بعمل سينمائي ينتمي لمرحلة ما بعد الحداثة - لم تكن الشّغل الشّاغل لـ «ماتريكس». الأهم كان تصويره دور الإنترنت في إقحام ملايين البشر قيد تجربة جديدة من الإحساس الفوريّ بأحداث العالم من حولنا: فنتابع من أي مكان في العالم ولحظيّاً القوات الأميركيّة وهي تقصف بغداد، والعواصف والتسونامي في أستراليا، كما الانتخابات والاستفتاءات في بريطانيا، وأزمات الحدود واللاجئين شرق أوروبا، وتدفّق المتظاهرين على مبنى «الكابيتول هيل» في الولايات المتحدة، وأخيراً انتشار وباء كوفيد 19 في أصقاع الأرض. الواتشوسكيون في «ماتريكس» وظفوا مصادرهم الميثولوجيّة والفلسفيّة كزخرف شكليّ، لكن اعتمادهم الأكبر في بناء السرديّة الناظمة للفيلم كان على الرجل الذي كان يرى أنّه مع طوفان المادة الإعلاميّة مما نسميه الآن «المحتوى» – أي المقالات الإخبارية والصور والأفلام والإعلانات والتلفزيون والبث المباشر- فإن أي شيء حقيقي وملموس مثل «الواقع» لم يعد موجوداً: الفرنسي جان بودريّار. وفي الفيلم، نرى نيو يحمل نسخة من كتاب بودريّار الشهير Simulacres et Simulation (1981)، ويقتبس منه مورفيوس بانتظام.


بحسب بودريّار، فإن هذا الطوفان من المعلومات أدى إلى «اغتيال المعنى»، فتدور جميع الأحداث في إطار التأويل، وحيث كل السيناريوهات ممكنة بحسب التوجهات السياسيّة للمحطة التي تتابعها. فالسعوديّة على «المنار» تقصف اليمن بوحشيّة، وعلى قناة «العربيّة» السعوديّة تتعرّض لاعتداءات الحوثيين، و«الجزيرة» القطريّة تغيّر رواياتها بحسب دفء العلاقة بين الدّوحة والريّاض، فيما «بي بي سي» تتظاهر بالتوازن مع ميل إلى احتقار هذا الشرق المتخلّف الذي يقتل بعضه بعضاً. وتغرقك مواقع التواصل الاجتماعيّ في «تايم لاين» خبيث يعمل على تشكيل وعي مزيّف في ذهنك وفق ما يوافق مصالح شركات التكنولوجيا الأميركيّة العملاقة التي تسمح لك تدريجاً بتشكيل غرفة صدى حولك لا تسمع فيها إلا واقعاً مفصّلاً وفق رغباتك الذاتية. وهكذا يبدو، وفق بودريّار دائماً، أنّ «كل شيء صحيح في وقت واحد»، فلا تستطيع إلا قلّة نادرة فهم ما يجري حقاً، بينما تعيش معظم البشريّة عمليّاً داخل خوارزميّة رقميّة. جرائم الأميركيّ ضد الشعوب تظهر فيها أقل وحشيّة من حقيقتها، بينما الكوريّ الشماليّ الحرّ هو شيطان مجسّد، وتفسّر الأحداث الغريبة بحدوث أخطاء في نظام التشغيل لا أكثر، ثم لا تلبث الخوارزميّة أن تعيدك إلى واقعك المعتاد المريح.
يجعل «ماتريكس» من منظومة الآلات الذكيّة الشريرة الغامضة التي تدير البشر وتخفي عنهم المصدر الحقيقي لاضطهادهم كأنّها الهيمنة التي وصفها أنطونيو غرامشي أو المشهديّة الملفقة التي كتب عنها غي ديبور: الأغلبية لا تدرك الهيمنة وتظنّ العالم على نسق ما يصوّره لها المهيمنون حصراً. وإذا كان ثمّة أمل وحيد يبقيه «ماتريكس» أمامنا مشرعاً، فهو أن الناس عندما يستيقظون من وهدة أوهامهم وينفضون عنهم أغلالهم، ويدركون صحراء الواقع القاحل من حولهم، بإمكانهم كسر الهيمنة وإعادة تشكيل الواقع وفقاً لإرادتهم. إنّه وعد ماركس، كسبت منه هوليوود مئات الملايين من الدولارات. وها هي تستعيده مجدداً بعدما أفلست أو كادت من الأفكار العميقة والأصيلة.
لكن أياً كان ما يحمله هذا الجزء الرابع، فإن المنتجين يمكنهم أن يطمئنوا تجاريّاً إلى قاعدة جماهيرية وفيّة، وإن كانت شديدة التباين، من المهووسين بالعالم السيبيري إلى مجتمع المتحولين جنسياً، ومن الماركسيين إلى المتفلسفين، ومن الوجوديين إلى منظري عالم ما بعد الحداثة. جمهور تناقضه شهادة مستحقّة على القراءات العديدة الممكنة التي يحتملها الفيلم، والحياة المستقلّة الصاخبة التي اكتسبها مع الأيّام. «ماتريكس» بالتأكيد ليس بعمق «جمهوريّة» أفلاطون أو «تواريخ» هيرودوتس أو كوميديا دانتي الإلهيّة النخبويّة الطابع، لكنّه أوصل أسئلتها الفلسفية الحادة إلى الثقافة الشعبيّة حيث تقيم الأغلبيّة الغافلة، ونقل إليها الرّسالة بأمانة، على حسابها بالطبع: استيقظوا أيها البشر واخرجوا من كهوف أوهامكم. أما ماهيّة تلك الأوهام، فهذا أمر متروك لكل منا بحسب أزماته الوجوديّة الخاصّة والهويّات المتخيّلة التي تورّط فيها.

* الجزء الرابع من «ماتريكس» The Matrix Resurrections في الصالات بدءاً من 22 ديسمبر ـــــ الأجزاء الثلاثة الأولى متوافرة على مواقع عدة