أحدث ديڤيد غريفيث ثورةً في لغة السينما عندما قرّب السينما من الرواية. قبل غريفيث، خلقَ جورج ميليس الخداع السينمائي والفانتازيا البصرية، وصنع السّحر بالصور. قرّب سيرغي آيزنشتاين المسرح والثورة والمشاهد الجّماعية إلى السينما. صنعت ليني ريفنستال أكبر وأروع أفلام البروباغندا. تجرّأ أندريه تاركوفسكي على جلب الشعر إلى الشاشة الكبيرة. التشويق والرعب والمؤامرة انتمت لألفرد هيتشكوك. بنى لويس بونوييل أفلامه بلغة الاحلام والسوريالية. عرّفنا مارتن سكورسيزي على حياة العصابات. جلب فيديريكو فيلليني الذاكرة. أحدث مايكل مان الكثير من الضجيج. تعمّق انغمار برغمان في الأديان والعلاقات المجتمعية. أخذتنا آنييس ڤاردا إلى شواطئها. كتب كريس ماركر السينما من خلال الصور والأصوات والكلمات، جعلنا نرى السّحر في الصّور، سجّل الواقع، أيقظ مشاعرنا الثورية، أغفانا مثل الأطفال، ونقلنا إلى الأحلام. شلّنا بمؤامراته، أذهلنا بكلمات صوره، حرّكنا، جعلنا نفكّر، واختبأ خلف مواء قططه.«بدون شمس» (1983) للفرنسي كريس ماركر، كائنٌ مرئي مذهل بحدّ ذاته. لوحةٌ كبيرة حيث يبدو أنّ المسارات يتمّ رميها في جميع الاتجاهات، والانعكاسات، والجسور المتعددة التي تربط المواضيع والأماكن والعصور. لغزٌ جميل يضعنا في وضعٍ غير مستقر، بشكلٍ مجازي. «بدون شمس» فسيفساء ذاكرة المخرج الذي يلقي نظرة على أنقاض تاريخ القرن العشرين. «بدون شمس» مقالٌ سينمائي، نسج فيه كريس ماركر أفكاره من خلال الصور. في أنقاض «بدون شمس»، العالم القديم والحديث، التقاليد والتكنولوجيا، الإنسان والطبيعة، الرعب والجمال. في الفيلم، الوقت التاريخي مجزّأ ومتحجّر، تكشف صور «بدون شمس» الثابتة جدليّة الجمود، وتراكمات الزمن، تماماً كما في صور الأنقاض. هناك تراكم بقايا الماضي المرفوض، يضاف إليه الحاضر المتجاهل وتستخلص منه شهادات أولئك الذين تمّ إسكاتهم ونسيانهم في هذه الأنقاض. والأنقاض هنا ليست معبداً أو مبنى، بل أنقاض العالم الذي شهد على تاريخ القرن العشرين.
في «بدون شمس»، نسج المخرج أفكاره من خلال الصّور


«من يعرف أين يُصنع التاريخ؟» يسأل ماركر، ثم نكتشف معه عالم الاحتمالات، على خلفيّة نقد التاريخ التقدمي الذي تجاهل الرّعب والمعاناة والمآسي الإنسانية عندما كتب المنتصر التاريخ. ماركر مفتونٌ بتأثير الزمن، ممّا سمح له باكتشاف تقلّبات وانعطافات التاريخ، والخيانات السياسية، والحاصلين على الميداليات الأولمبية الذين أصبحوا جنوداً، والمقاتلين الذين نفّذوا انقلابات والمدن السعيدة التي ستغرق لاحقاً في الرماد. «بدون شمس» بلا شك إحدى أكثر مقالاته السينمائية وأفلامه التجريبية إثارةً يسافر فيه عبر الزمن والمدن مثل الرأس الأخضر وطوكيو وهلنسكي مع القطط والبوم.
ما صنعه ماركر هو ذاكرة رجل من القرن العشرين يبحث في الماضي عن أضواء وقت مختلف وضائع. معركة رجل يطارد ذكرى معينة في معركة ضد الزمن، ويقول «يريدون منّا أن نصدّق أنّه يتم تشكيل ذاكرة جماعية، إلا أن هناك ملايين الذكريات التي تمشي في شقوقها الشخصية داخل شق ذاكرة التاريخ العظيم». لم يُظهر أيّ فيلم آخر لماركر باستثناء «الرصيف» (1962) آلية الذاكرة التي تستعمل ليس فقط للتذكر، بل لإعادة اختراع الحياة وقهر الموت في نهاية المطاف.

* Sans Soleil على Mubi