تعتبر أفلامه «فيلم مؤلف» في أوروبا بسبب بعدها الشخصي وطريقته في كتابتها. خلال معظم حياته المهنية، كان يُنظر إلى المخرج الأميركي براين دي بالما (1940) من قبل جزء كبير من النقاد والجمهور على أنه بديل ألفرد هيتشكوك، من دون أي اهتمام سوى بأجوائه الجنونية والمكائد التي يصنعها في أفلامه الروائية الطويلة. ولكن منذ أوائل الثمانينيات، عرف دي بالما كيف يؤسس نفسه كأحد أهم المخرجين في هوليوود. واليوم، يصعب العثور على شخص ما زال يشك في أنّنا أمام أحد رواة القصص العظماء في هوليوود. دي بالما عبقري في استخدامه للكاميرا في حركتها المستمرة والاستخدام المعتاد للشاشة المنقسمة والحركة البطيئة. يولي اهتماماً لكل التفاصيل السينمائية وخاصة الصوت، كما تؤكد سينماه على أهمية المونتاج كمفتاح السرد.
أربعون عاماً على «بلو أوت»: درس في الإخراج


هيتشكوك، انطونيوني وكوبولا. الثالوث المقدس الذي أنتج سينما براين دي بالما. تأثيرهم على دي بالما يظهر بشكل واضح في Blow Out. «بلو اوت» (1981) واحد من الأعمال الأكثر تميزاً عند دي بالما. فيلم سياسي لم ينل اهتمام الجمهور في بداية الثمانينات، على عكس ما أظهره النقاد، ومنهم بولين كايل الذي وصفت الفيلم بالعظيم. مع الوقت، أصبح الفيلم تحفة سمعية بصرية. ويُعرف أيضاً بأنه رسالة حب للسينما وخاصة «السينما ب».
جاك (جون تراڤولتا) مهندس الصوت الذي يعمل على أفلام الرعب، يكتشف عن طريق الخطأ مؤامرة ضد مرشح لرئاسة الولايات المتحدة من خلال تسجيل صوتي وبعض الصور. دي بالما الذي أخذ العناصر المبدئية للفيلم من «بلو أب» (1966) لمايكل انجلو انطونيوني، يظهر لنا حقيقة ثانية مخبأة تحت ظلال الفساد، ويكرر مثل انطونيوني التلميح واكتشاف الحقيقة الموازية، ولكن هذه المرة من خلال الصوت. في «بلو اوت»، يزودنا دي بالما بعينات من عبقرتيه خلف الكاميرا، والمشاهد الذي تضع المتفرّج في قلب الحدث بأدق التفاصيل. فيلم يعد درساً ومحاضرة في الإخراج والتصوير السينمائي والمونتاج.
يتلاعب بذكاء بالتأثيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية والفضائح والنقد الاعلامي


«بلو أوت» هو سينما عن السينما. يجمع جاك المشاهد، ومع الصوت الذي سجّله، تمكّن من بناء قصة سينمائية. دي بالما دقيق في توضيح عملية مونتاج الصوت وأهميته في السينما وكيف يضفي معنى على الصورة. من دون الصوت، ما يراه جاك مختلف تماماً عما يراه عندما يضيف صوتاً إليه. ما فعله دي بالما في الفيلم هو خلق مشاعر من المشهد الأول وحافظ عليها طوال الشريط.
في «بلو أوت»، يهيمن الأسلوب على الحبكة، وأيضاً العناصر المستعارة من أفلام أخرى («المحادثة» لفرانسيس فورد كوبولا، «النافذة الخلفية» لألفرد هيتشكوك)، والمعالجة البصرية (لقطات تتبع طويلة، الشاشة المنقسمة، الحركة البطيئة، صورة بانورامية، الدوران 360 درجة). فوق كل هذا يرينا دي بالما الطريقة العملية التي كانت تستعمل وقتها لوضع الصوت على الصورة، في مشهد لا يمكن أن يحذف من الذاكرة السينمائية. مع كل ما سبق، يتلاعب دي بالما بذكاء بالتأثيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية والفضائح والنقد الاعلامي، ويخلق فيلماً في فيلم.... سينما نقية خالصة وأنيقة وفن عظيم.

«منقّح»: إعادة إحياء مجزرة المحمودية


العراق 2006. قررت دورية من الجنود الاميركيين، التي خنقها الحر الشديد والملل من تكرار المهمات، خلال لعبة بوكر إرضاء شهيتهم الجنسية من خلال اغتصاب مراهقة، وقتل عائلتها في جريمة عرفت بـ«جرائم المحمودية». لاستنكار هذا العمل الإجرامي، بغض النظر عما إذا كنا في حرب أم لا، أخذ براين دي بالما، ساعة ونصف الساعة لإعادة تشكيل الواقع والجريمة مع جميع الموارد السمعية والبصرية المميزة فيها. قدم «منقّح» (2007) بطريقة وثائقية عن الأخلاق وكوميديا بشعة عن الطبيعة البشرية وانحلال النظام الرأسمالي، بخاصة أنّ القصة حقيقية، حدثت بالفعل، والفيلم مستوحى من قصة إخبارية تم تجاهلها وتجاوزها بصمت.
قال لنا دي بالما منذ البداية بأنّ كل ما نشاهده هو خيال. لكن مع المشهد الأول، نلاحظ كيف يحاول تضليلنا. أراد المخرج أن يكون كل شيء حقيقياً قدر الإمكان بفظاظة وقسوة. يقرّبنا الفيلم من الأحداث من وجهات نظر مختلفة: يوميات على شكل شرائط ڤيديو لجندي أميركي، تسجيلات كاميرات أمنية، مشاهد من فيلم وثائقي فرنسي، مقاطع من يوتيوب، مقتطفات إخبارية، ومحادثات سكايب.
يوميات على شكل شرائط ڤيديو لجندي أميركي، تسجيلات كاميرات أمنية، مشاهد من فيلم وثائقي فرنسي، مقاطع من يوتيوب


تخلى دي بالما عن صنع فيلم سياسي عن حرب العراق بالمعنى الهوليوودي (لذلك عوقب الفيلم في أميركا وعرض بشكل محدود جداً على الرغم من نيله جائزة الأسد الفضي لأفضل مخرج في «مهرجان البندقية»)، مقترن بجرعة هائلة من الإثارة، وأبقى المشهد الإنساني والأخلاقي للجنود المقتنعين بأن العراق كوكب مجهول، حيث يمكن قلب القيم وفعل أي شيء من دون محاسبة.
«منقّح» بعنوانه يعني تنظيف المستندات والصور والرسائل قبل النشر. في الفيلم عكس دي بالما ذلك. استعاد الوجوه المختبئة، الكلمة المحذوفة، وعرض ما لا يمكن أن يعرض. خلق نوعاً من الدراما الوثائقية الجادة، وعرض السياقات السياسية والبشرية لجرائم الحرب. استنكر سيرك العنف وفعل ذلك بالموارد نفسها. صاح بوجه الكل: تريدون العنف؟ هذا هو العنف. تريدون أكاذيب تبدو صحيحة؟ فلنكذب. أعاد إحياء مجزرة المحمودية بموارد وهمية، كأنه يقول للجميع، الكذب سهل، وإخفاء جريمة أو تجاهلها لا يعني أنّها لم تحصل.

Redacted على MUBI