«أسود، ومثلي وفقير... شعرت أنّني فزت بالجائزة الكبرى» بتلك النَبرة المتهكّمة والساخرة لكن المرّة، وصف جيمس بالدوين (1924 ــ 1987) تكثيفه في شخصيته ومساره هويات عرقية وطبقية وجندرية حدّدت نظرة الخارج إليه في «ستيغما» أخضعته لمختلف أنواع التمييز والاضطهاد، لكن أيضاً شكّلت نظرته إلى هذا العالم ووعيه في أميركا الفصل العنصري وتعصّب المؤسسة الدينية وتكريسها النظام التمييزي والضغوط النفسية والتمزّقات الفردية والهوياتية التي يعانيها فرد مثل بالدوين في أميركا القرن العشرين. انشغالات انعكست في جميع أعماله الإبداعية ومسيرته النضالية مع رفاقه من مالكم اكس، ومارتن لوثر كينغ، وحركات الحقوق المدنية السوداء، وحقوق المثليين في أميركا الخمسينيات والستينيات. الروائي والمسرحي والقاص والشاعر والأهمّ المناضل و«الشاهد»، عاد إلى الواجهة أخيراً من خلال شريط «لقاء الرجل ـ جيمس بالدوين في باريس» (راجع المقال أدناه) في توقيت مقصود. كأنّنا بأميركا جيمس بالدوين، وضعت قناعاً آخر، لكنّها لم تغيّر لا جلدها ولا وجهها بعد عام واحد فقط على مقتل جورج فلويد، الأسود الذي قضى تحت جزمة شرطي في مدينة منيابولس. ولد جيمس بالدوين عام 1924 في هارلم في نيويورك. كأي صاحب بشرة سوداء واجه العديد من العقبات بدأت منذ دراسته «بالطبع كنت أعلم بأنني أسود البشرة، لكنني كنت أعلم أيضاً أنني ذكي، لكن لم أكن أعرف كيف أستخدم عقلي أو حتى إن كنت أستطيع استخدامه، لكنه كان الشيء الوحيد الذي يجب عليّ استخدامه». خلال فترة بلوغه، كان شديد التدين بسبب زوج والدته. وعندما بلغ سن الـ 17 هجر الدين تماماً. أرادوه أن يصبح واعظاً، لكنه كان يرى الأشياء بطريقة مختلفة «الوجود على منبر الكنيسة كان مثل العمل على المسرح، لقد كنت وراء الكواليس، وأعرف كيف يصنع الوهم». عشق الكتابة منذ الصغر وواجه اضطهاداً مزدوجاً، بسبب لون بشرته وميوله المثلية. عندما بلغ الرابعة والعشرين، قرر الهجرة إلى باريس. هرب ليتصالح مع مثليته واليأس الذي يعيشه الشبان الأميركيون من أصل أفريقي. لم يرِد الكتابة وأن يُعرف بأنه «مجرد زنجي، أو مجرد كاتب زنجي». في باريس، تعمّق في الثقافة اليسارية، ونشر باكورته الروائية «اذهب واحكِها على الجبل» (1953). سيرة ذاتية كشف فيها العلاقة المعقدة بين الهوية السوداء والمسيحية في أميركا. وعندما عاد إلى وطنه، كان لدى بالدوين رؤية والتزام واضح بخصوص مكافحة الفصل العنصري الذي سيتجلّى في رواياته ومقالاته وخطاباته ومقابلاته. كان على اتصال مع مناضلين آخرين في الوسط الثقافي والفني وفي الساحة السياسية من بينهم ثلاثة تركوا أثراً كبيراً في حياته: ميدغار إيڤرز، مالكوم إكس، مارتن لوثر كينغ الابن. اليوم في الولايات المتحدة، يُعاد اكتشاف بالدوين كشخصية مركزية في الخطاب الأفرو أميركي. تعيد المبادرات أعماله إلى المناهج الدراسية، والجيل الجديد من النشطاء السود يرفعون شعاراته ومقولاته. بالدوين ليس فقط أحد أبرز وجوه الأدب الأميركي في القرن العشرين. إنّه أيقونة، شخصية عصبية وهشة تقريباً، مليئة بالمخاوف، يشرب كثيراً ويدخن بلا انقطاع وغالباً ما يفقد جمهوره بحججه المبالغ فيها. ومع ذلك، لم يكن أيّ مؤلف آخر قادراً بشكل أفضل على تصوير واقع السود في تلك الحقبة.
قليلة هي الأفلام التي تحدّثت مع بالدوين وعنه بطريقة مباشرة. اثنان منها شكّلا علامة فارقة في الوثائقيات التي صنعت عنه. الأول هو «لقاء الرجل: جيمس بالدوين في باريس» (1970)، وثائقي عن واقع حوار فاشل بينه وبين المخرج البريطاني تيرانس ديكسون. نصف الفيلم القصير (26 د.) هو حديث متوتر ومحاولة لمدّ جسور تفاهم بينه وبين بالدوين. والثاني «أنا لست زنجيك» (2016) الذي نجح فيه المخرج والسياسي الهايتي راؤول بيك في صنع مقال حاد عن العنصرية العميقة في أميركا بنبرة عالية في السينما السياسية العالمية.