كان برتران تافرنييه (1941 – 2021) جزءاً من جيل وُلدت معه الجرأة والمشاعر الثورية وهرب بها إلى السينما والموسيقى والفنّ بشكل عام. هو من المقاتلين الأحرار العنيدين ضد الأنظمة البيروقراطية والمليئين بالتناقضات التي تُغني النفس البشرية. أحب الحياة ولا شيء غير ذلك، ما دامت الحياة تشكل السينما والتاريخ والالتزام السياسي وموسيقى الجاز وفنّ الطهو. أخرج الأفلام بلا كلل، وألّف الكتب، وترأّس «معهد لوميير» في ليون. كان مناضلاً بلا هوادة من أجل الاستثناء الثقافي للسينما الأوروبية. مخرج ومنتج ومؤرّخ وناقد وبطريرك للسينما. يحفظ كل تفصيلة في أي فيلم يشاهده حتى أسماء الممثلين والعاملين والتقنيين بالكامل. كل أعماله عبارة عن توليفة فريدة من نوعها لأعمق تقاليد السينما الفرنسية. عشقه للفن السابع لا مثيل له، بصفته ناقداً، ألّف أكثر الكتب تأثيراً في عصره، دفاعاً عن السينما الأميركية العظيمة. بصفته مسؤولاً صحافياً عن إنتاجات هوليوود الكبرى، خلال الستينيات من القرن الماضي؛ كانت لديه تجربة فريدة من نوعها في إجراء المقابلات والحوارات مع جميع أساتذة السينما الأميركية تقريباً من الأربعينيات إلى السبعينيات. كمؤرّخ للسينما؛ كانت له رؤية سينمائية شهيرة لتاريخ فرنسا. سيكون فيلم «رحلة عبر السينما الفرنسية» (2016) مرجعاً لفهم السينما الفرنسية وتحولاتها. صنع السينما السياسية من دون الوقوع في إغراء السينما الإيديولوجية. حوّل القضايا التاريخية والاجتماعية إلى سبب وجود للسينما. كان تأثير رواة الجريمة في أميركا الشمالية، حاضراً بقوة في أعماله. قدّم أفلاماً بإيقاع ونفس وهالة بعيدة كل البعد عن السينما الفرنسية التقليدية. عاش المرحلة الأخيرة من حياته في عزلة في «سانت ماكسيم»، بلدة صغيرة في إقليم ألب كوت دازور، حيث توفي قبل بضعة أيام قبل عيد ميلاده الثمانين.مارس السينما طوال حياته كما اكتشفها ودافع عنها. كان دائماً يعتقد أن السينما الفرنسية لا تزال في أزمة، ومدفونة باستمرار، ولكنه يستدرك: «من يدفنها يموت قبلها». لا يشبع من السينما، وقد دخلها بطريقة غير واعية لفصل نفسه عن والده (الشاعر والكاتب وعضو المقاومة خلال الحرب العالمية الثانية رينية تافرنييه). امتلك المجال الخاص به وأراد أن يتعلّم ويفهم.
مع وجود أكثر من ثلاثين فيلماً ذي مكانة دولية وراءه، من بينها «الحياة ولا شيء آخر ولكن» (1989)، «اليوم يبدأ كل شيء» (1999)؛ لخّص تافرنييه أسلوبه بعبارة متواضعة: «أصنع السينما للمشاركة». كان دائماً يقول: «الشغف والفضول في الأوقات الصعبة هما أسلحة ضد الجهل، أسلحة للبناء». تمكّن من رسم مشاهد عائلية في السينما تذكّرنا بلوحات تشيخوف أو اللوحات الانطباعية الحزينة. كان قادراً على خلق تخيلات تاريخية حول عهود التاريخ الفرنسي المُلهمة للذاكرة، وكان طليعياً، وغير محافظ، قدّم هجاء حاداً للاستعمار الفرنسي والعنصرية. كاتب كامل، غير تقليدي بالفطرة، وانتقائي بشجاعة.
حوّل القضايا التاريخية والاجتماعية إلى سبب وجود للسينما


كان لا يحب وصفه بالسينيفيلي، فتعريف السينيفيلي بالنسبة إليه هو تعريف هجومي محدود لشخص ليست لديه حياة خارج السينما «الأدب والمسرح والموسيقى تهمّني بقدر السينما، ربما أكثر ما يهمني في هذا العالم هو مايلز دايفيس، أنا أعيش الحياة». في المرة الأولى التي دخل فيها إلى السينما، كان طفلاً. قارن هذا الشعور بالبهجة التي عاش فيها عند نهاية الحرب العالمية الثانية. مقارنة جريئة. «السينما بالنسبة إليّ كانت أيضاً تحرراً واكتشافاً ومدرسة. فتحت عينَيَّ على عوالم وثقافات مختلفة للغاية. وفي الأفلام التي ميّزتني، وجدت الشعور بالحرية نفسه الذي شعرت به عندما تحرّرت المدينة التي ولدت فيها، ليون». سيد السينما ومخرج مع نظرة نقدية لكل ما يحيط به. أنقذته السينما من حالته الصحية السيئة وسمحت له بالحلم والتخيّل «بفضلها تحمّلت الألم الذي شعرت به عندما كنت صغيراً، لو لم تكن السينما موجودة، لا أجرؤ حتى على تخيّل ما كنت سأفعله في حياتي، ربما لا شيء». بسبب سوء التغذية، كانت لديه مشكلة في العين، وكانت السينما ـــــ الفن البصري ـــــ ملجأه وبدأها بضعف في البصر، «لقد غيّرتني السينما». اكتشفها وهو مريض بالسل، وعندما أصيب بالسرطان لم ينتظر دقيقة بعد العملية للعودة إلى العمل، «لم يشرح لي الطبيب كيف تمكّنت من التعافي بهذه السرعة. قل لي: شفاك حبك للسينما». ستجفّ الأقلام قبل التوقف عن الكتابة عن برتران تافرنييه. هو السينما. هو الشخص الذي سوف نظل نكتشفه، تماماً مثل السينما وتاريخها. وصيته كانت «هناك تاريخ للسينما، لم يتم اكتشافه بعد»... من كان بإمكانه اكتشافه... رحل للتوّ.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا