لعقود من الزمن، درس قطاعا علم النفس والفلسفة، العقل البشري، بحثاً عن أسباب يمكن أن تبرر مواقف وسلوكيات متنوّعة معينة، ووُضع مجرمون بارزون، وجرائمهم تحت مجهر مراكز الدراسات والأبحاث. كما لو كان الإنسان نفسه هو المفتاح لفهم أنفسية لآخر. البرودة التي يرتكب بها كثيرون فظائعهم، تلفت الانتباه، مثل حلقة لا نهاية لها ولا حل. من خلال هذا السياق، يؤسس المخرج الأميركي جوناثان ديم سرد فيلمه «صمت الحملان» (1991). يرسم ديم في شريطه ــ المقتبس عن رواية توماس هاريس ــ الصورة النفسية والفلسفية لمجتمع مريض بشدة، من القتل المتسلسل، إلى أكل لحم البشر. من وجهة نظر ديم، فإنّ أميركا في حقبة ما بعد ريغان، تعبّر عن نفسها بالعنف، مثل سرطان خبيث في مراحله النهائية. في الدقائق العشرين الأولى، يعرض الفيلم موضوعاته أمامنا ويوضحها: الإثارة، التشويق، الوعي النفسي، الإثارة الجنسية، البحث عن قاتل، امرأة في عالم من الرجال، والازدواجية بين الوحش والإنسان الذي يمثله هانيبال ليكتر. للقبض على قاتل متسلسل مجنون يتمتع بسلخ ضحاياه، تعتمد كلاريس ستارليغ (جودي فوستر) العميلة في مكتب التحقيقات الفيدرالي على مساعدة هانيبال ليكتر (أنتوني هوبكنز)، الطبيب النفسي اللامع، والقاتل المتسلسل وآكل لحم البشر المسجون. «صمت الحملان» هو إحدى الحالات التي يكون فيها عنوان الفيلم، هو بدوره موضوعه الرئيسي. في هذه الحالة، فإن الحملان التي يجب إسكاتها في العنوان تُمثّل الصراع الداخلي لكلاريس. والشخص الذي سوف يساعدها في إخراج تلك الصدمة من داخلها، سيكون عدوّها الفكري: الدكتور هانيبال ليكتر. هذه العلاقة النفسية المريضة بين كلاريس وهانيبال التي تسبح في وحل التناوب المعقّد بين النفور والانبهار، هي العمود الفقري للفيلم. الأحاديث والعبارات التي نسمعها من الاثنين، تهاجم مخاوفنا البدائية وتجعلنا نواجهها، ما يضعنا طوال مدة الشريط في موقف دفاعي عندما يكون وجها الاثنين على الشاشة.
جوناثان ديم (1944 – 2017) كان نادراً ما يظهر في هوليوود. كان يملك أسلوباً خاصاً. مخرج سينمائي مال دائماً إلى الفيلم الوثائقي، الذي لم يتخلّ عنه حتى في أفضل أفلامه الخيالية. كان يعرض دائماً، الجزء الاجتماعي الأكثر رعباً وتعصباً لأميركا، ويُظهر نظاماً سياسياً مرعباً تهيمن عليه الشركات الكبرى ولا يعد فيه السياسيون أكثر من كائنات «زومبي» بسيطة تسترشد بالمصالح المالية. هذا الميل نحو الفيلم الوثائقي، كان حاضراً جداً في «صمت الحملان»، خاصة عندما يتعلق الأمر بإظهار المواجهة الفكرية بين كلاريس وهانبيال. في معظم الأوقات، يتم تصوير هذه المواجهة والممثلون ينظرون إلى الكاميرا، ما يعطي انطباعاً بأنهم يخبروننا أسرارهم. استخدامه المتقن للكاميرا والألوان والصوت والموسيقى، يخلق جواً مؤلماً ومثيراً للقلق يطاردنا ويغرقنا بالكامل في القصة. الطريقة التي يستخدم فيها زوايا الكاميرا، تلتقط تماماً نوايا كل شخصية، ويتلاعب بها وبنا، ويحفظ المفاجآت التي تبقينا في حالة توتر.
السبب الرئيسي لشهرة الفيلم هو في بطلَيه جودي فوستر وأنتوني هوبكنز


ولكن يكمن السبب الرئيسي لشهرة الفيلم وتصنيفه لاحقاً كلاسيكياً معاصراً هو في بطليه: كلاريس ستارليغ وهانيبال ليكتر، وفي جميع جوانب العلاقة بين الاثنين. منذ اللحظة التي يتواجه فيها كلاريس وليكتر للمرة الأولى، يبدأ إسقاط لعبة التلاعب وأجواء التشويق، مدفوعة ببيئة شبه خانقة ومشاعر غريبة تعيش في المكان. في الوقت نفسه الذي صُدمت فيه الشرطية الشابة بمناظر جلادها وبرودته، كانت مفتونة بهذا المخلوق الذي يحاول التلاعب بالوضع برمّته. الأداء القوي والعاطفي لجودي فوستر خلق شخصية العميلة كلاريس، والتقطت جميع شياطين وطموحات ستارلينغ. وبالمثل، لم يتردد أنطوني هوبكينز في الانغماس في شخصية ليكتر، واستخدم أساليب تمثيلية مزعجة ومرتجلة، بما في ذلك الاستهزاء العفوي بشخصية فوستر. من خلال نظرة ثابتة وفارغة منه فقط، يمكننا رؤية شخصية معقّدة ومتلاعبة. يغمسنا الفيلم في ماضي كلاريس وذكرياتها البعيدة. وعلى الرغم من أنّنا نراها قوية، لا يزال بإمكاننا ملاحظة هشاشة الطفولة المضطربة. يقلب ليكتر السيناريو ويقتطف من كلاريس ذكرياتها القاسية. «صمت الحملان» عمل غامض، قدّم جوانب اجتماعية نادراً ما يتم تناولها في هوليوود. فيلم بجودة سردية متماسكة ومبتكرة. عرف ديم كيفية الإفادة من الثراء السردي، ليخلق على شاشة السينما صورة مليئةً بالفكر والإثارة.

* The Silence of the Lambs على نتفليكس

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا