لا قصف ولا دمار ولا أهوال حرب، ولا حتى إدانة لما يدور في البلاد. إنّه أحد أسوأ الأفلام اللبنانية، ذو مستوى إخراجي متدنٍّ من سينمائيّ لا يعرف ماذا يريد. مشاهد متتالية لا يجمعها شيء، لا طاقة تعبر الشاشة عبر الممثلين، ولا تفاصيل، حتى الموسيقى (موسيقى غابريال يارد) غير متناسقة مع جو الشريط والمشاهد. «المفاتيح المتكسّرة» (90 د، إخراج جيمي كيروز ) اختارته وزارة الثقافة لتمثيل لبنان عن فئة الفيلم الأجنبي في الدورة الـ 93 من الأوسكار في 25 نيسان/ أبريل 2021) يقدم أسوأ البدايات والنهايات في تاريخ السينما اللبنانية. لا أدري ماذا يريد المخرج جيمي كيروز منا في الفيلم. طوال المدة، حاولت جاهداً أن أجد معنى حقيقياً، أو شيئاً واضح المعالم، فإذا بنا أمام عمل شديد الادّعاء والتصنّع.
يعيدنا جيمي كيروز إلى الحرب على داعش عام 2014. تدور القصة (يرتكز الشريط إلى قصة حقيقية قدّمها كيروز أيضاً في فيلمه القصير «موسيقى هادئة بالأسود»/ 2016) كما يدعي في منطقة على الحدود السورية العراقية، حيث كان «تنظيم الدولة الإسلامية» مسيطراً. كريم (طارق يعقوب) موسيقي شاب، يحاول تصليح البيانو الخاص به ومفاتيحه المتكسّرة، بعدما دمّره أفراد «داعش» وبالتحديد عبدالله (جوليان فرحات). يعيش كريم في مبنى واحد مدمّر مع العديد من الأشخاص. طبعاً، الموسيقى في ظل داعش ممنوعة، والبيانو يشكل خطراً على الموجودين في المكان. يقرر كريم إصلاح البيانو وبيعه والهروب إلى أوروبا. لكن قبل ذلك، عليه السفر إلى منطقة أخرى خطرة ليأتي ببعض القطع. مع سير الأحداث، تتغيّر خطته.

من الشريط

تشكّل القصة العنصر المحرّك للسرد. حاول جيمي استخدام الحدث (تصليح البيانو) كوسيلة محفّزة للدراما، جمع أشخاصاً وأطفالاً وشخصيات كثيرة (سارة أبي كنعان، عادل كرم، فادي أبي سمرا، بديع أبو شقرا، ميشال اضباشي، رولا بقسماتي، إبراهيم الكردي، سعيد سرحان...) وحاول محاصرتهم في شبكة من العواطف المشوّشة، والمشاعر البائسة، والأسرار المظلمة والانقسامات المتجذّرة. لكنه ترك كل شيء معلقاً، من دون تبرير. مسار الشريط يبيّن عدم مبالاته بوجهة الأحداث، فالمهم بالنسبة إليه هو الوصول إلى النهاية المعروفة منذ البداية، وما يحدث بعد ذلك أمر ثانوي. طوال الشريط، تبدو الشخصيات معلّبة، كتلاً باردة، مجردة من العواطف والعمق والطباع، وحتى العلاقة بين بعضها غير معروفة. لا تطوّرَ للشخصيات، تركنا جيمي في الظلام. توقعنا القليل من الأبعاد، أن نعرف من هم حقاً ولماذا، لكنه لم يترك أي سبب للتعاطف معهم. الفيلم ليس فقط صعب المشاهدة لسخافته، لكنه رخو بدون أيّ قوام، مجرد محاولة جوفاء لإظهار قصة طنّانة فاقدة لأي معنى أو عمق.
للمشاهدة، علينا الجلوس وإضاعة ساعتين تقريباً على فيلم لم يكلّف المخرج نفسه عناء القراءة عن «الدولة الإسلامية» والبحث في تاريخ العراق وسوريا، ومعرفة تفاصيل الحرب الدائرة هناك، ومشاهدة وثائقيات، وأفلام حروب كي يكوّن أدنى معرفة عما يصنع بين يديه. هناك جهل تام بتاريخ المنطقة، واللغة، والسياسة، والصراع، وداعش والبشر وجغرافيا المكان. اللغة المنطوقة غريبة (خليط بين اللبناني والعراقي والسوري والفلسطيني): تبدأ الجملة بلهجة وتنتهي بلهجة أخرى. سيناريو أكثر من طفولي بحوارات فكاهية في بعض الأحيان وتصرفات غير ناضجة. لم نعرف في أي منطقة يعيش كريم، ولا إلى أين سافر. هناك جهل في جغرافيا المنطقة ولامبالاة بأماكن التصوير. لم نعرف أين هم أفراد داعش، من أين يأتون، لا نعرف أين يعيش كريم، ولا إحداثيات للمناطق.
في أفلام الحرب، تشكّل الإثارة والتشويق عنصرين مهمين جداً، لكنهما مفقودان في شريط كيروز. والسبب هو عدم المبالاة بجغرافيا مكان التصوير والوقت وإغلاق المشهد، أي ببساطة تفاصيل حركة الممثلين مع الكاميرا، والأخيرة مع المكان. إنه مثل تصميم رقصة، كوريغرافيا الصورة، حيث تتحرك جميع العناصر في انسجام تام في ما بينها. هناك فراغات كبيرة في السيناريو رغم أنّ كلمة فراغات ساذجة جداً، إلا أنني لم أجد كلمة تصف ما حدث في مشاهد الفيلم. هناك فجوات بحجم الثقب الأسود، وافتقار كامل للمنطق السليم، أقلّه في الشيء الأهم في الفيلم وهو البيانو ومكانه. يتحرك البيانو من مكان إلى مكان بطريقة سحرية. فجأة نراه في مكان مختلف، البيانو كبير وثقيل، والحركة معه ليست سهلة، خاصة في منطقة حرب وأبنية مدمّرة وسلالم مهترئة. لكنه في الفيلم يعامَل معاملة الهاتف المحمول! وهذه مشكلة أخرى في جهل استثمار الأشياء والحركة في الإثارة الضرورية المفقودة في الفيلم.
أراد المخرج حشو بعض الأفكار من دون إعطاء كل ذي حقّ حقه. كل مهمة داعش في الفيلم، حرق بعض الكتب، وتعليم الأطفال القتال، وتكسير البيانو. حتى عبدالله قائد الإرهابيين، حاول المخرج إعطاءه بعض الإنسانية والقليل من الصراع الداخلي، لكنه تركه في منتصف الطريق. لم نعرف تاريخ كريم. كل ما نعرفه أنه خسر والديه في الحرب، لكن ليس هذا المهم. في الدراما، الأهم هي فكرة الحرب وفكرة الوالدين وفكرة الصراع الذي يحدث داخل كل شخص يعيش في منطقة حرب. عندما سافر كريم إلى منطقة ثانية للبحث عن قطع للبيانو، يلتقي بامرأة يزيدية من مقاتلات البيشمركة. لم يكلف المخرج نفسه البحث قليلاً عنهم، وعن تاريخهم وثقافتهم ولا لبسهم ولا حتى هيئتهم. المرأة المقاتلة اليزيدية في الفيلم ساذجة، تشبه المقاتلات في الأفلام الهوليوودية السيئة. وكالعادة، تركها كيروز في منتصف الطريق، ظهرت واختفت بدون أيّ داع. الحوار مبني وفرضي، والتفاعلات بين الشخصيات بعيدة عن كونها طبيعية. هي بدلاً من ذلك محرجة وخرقاء، كأنّ الشخصيات مجرد ممثلين لم يعرف بعضُهم بعضاً إلا قبل يوم واحد من التصوير. جمع كيروز الكثير من الممثلين اللبنانيين، وكل منهم ينطق ببعض الجمل التي لا تتعدّى نصف صفحة مكتوبة، وبالتأكيد تركهم قبل أن يظهروا حتى في الفيلم.
تدور القصة في منطقة على الحدود السورية العراقية، حيث «تنظيم الدولة الإسلامية»


مشاكل العمل لا تُحصى، ولكن المشكلة الأساسية والأهم هي المونتاج. فالمشاهد غير متناسقة، ولا نعرف من أين تبدأ ولا أين تنتهي. هناك قطع حادّ في المشاهد، إلى درجة أن بعضها ينتهي قبل أن تنهي الشخصية الجملة المنطوقة. المشاهد ذكي، يعرف المونتاج السيّئ عندما يراه، لأنه يشعر به. هناك تراخٍ تقني، وترتيب يقتل التوتر الدرامي. العديد من اللقطات غير محفّزة، بمعنى أنها صُنعت بدون سبب واضح، (مثل مشهد الحلم الذي لا داعيَ له، لعل السبب الوحيد لتصويره هو لكي يظهر جيمي كيروز في الفيلم) ولا تخدم القصة والدراما، ما يصعب أو يستحيل على المشاهد فهم متى يفترض أن يكون المشهد والحوار والممثل وأين. إيقاع سريع جداً، بسبب المونتاج، وأطول اللقطات قصيرة جداً بالنسبة إلى حركة الفيلم (مثل مشهد المطر، مشهد تصليح البيانو... هذه تفاصيل ضرورية). المونتاج يكشف غياب الروح في الفيلم: أين القصة الإنسانية؟ العواطف؟ الآراء؟ الشخصيات التي ستجعلني أهتم بالمشاهدة؟ وهذا له علاقة بالسيناريو والممثلين وهيكل القصة، ولكنّ جزءاً كبيراً من هذه الرؤية يتم إحياؤها في غرفة المونتاج. المشاهد بلا لون ولا رائحة ولا صوت. اللون يجعل الفيلم حقيقياً، هو التفسير المرئي للسيناريو والشعور الناتج عنه، يبقى مع المشاهد بعد انتهاء الفيلم. ألوان الفيلم زاهية جداً، وبالتأكيد هذا ليس لون منطقة حرب. مقاييس الصوت عادة تخبرنا بأشياء قيمة، يمثل الصوت تقريباً 60 في المئة من المشهد، على الأقل يجب أن يكون الحوار مختلطاً بمستوى ثابت، وأن يكون مسموعاً وسلساً مع ملء صوت/ نغمة الغرفة والفراغات. في الفيلم، بعض الحوارات غير مسموعة، واستعمال الأصوات خطأ، ومزجها مع الموسيقى جاء ليملأ المشهد، لكنه تركها صاخبة بعض الشيء وغير متنافسة، وليست ضمن النطاقات المقبولة للسمع.
يرينا «المفاتيح المتكسّرة» كيف يَفترض بعض المخرجين اللبنانيين أنّ المشاهدين بُلهاء. المشاهد ليس غبياً، والسينما لا تكذب. لا نحبذ المقارنات، ولكن ما حصل في لبنان قبل ترشيح الفيلم ليمثل لبنان في الأوسكار هو فضيحة. والآن بعد مشاهدة «المفاتيح المتكسّرة»، يمكن التأكيد بأنه أكبر من فضيحة. مقارنة هذا العمل بفيلم أحمد غصين «جدار الصوت» وترشيح هذا الفيلم للأوسكار بدلاً منه، هما إهانة للبنان، وإهانة لصناعة السينما في لبنان، وإهانة للعراق وسوريا وشعبيهما، وإهانة للمخرج والممثلين والمنتج (أنطون صحناوي) ولكل من شارك في العمل، وبالتأكيد إهانة لمن قرّر ترشيح الفيلم ليمثل لبنان.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا