تونس | حشرت الثورة الصناعية والنظام الرأسمالي الإنسان بين براثن الاستهلاك والإنتاج لتختزل كينونته في قيمته المادية. ويبدو أن هذا المسار طال الفن أيضاً، ليصبح الإنسان محمّلاً كلوحة أو جدار. من هذه الفكرة التي راودتها في متحف اللوفر، استوحت المخرجة التونسية كوثر بن هنية قصة فيلمها الروائي «الرجل الذي باع ظهره» الذي رشّحته تونس للمنافسة على جائزة أوسكار، لأفضل فيلم أجنبي في الدورة 93 التي ستُقام في نيسان (أبريل) المقبل. تحوُّل الإنسان إلى بضاعة وإلى مجرّد رقم ومحمل يباع ويُشترى في المزادات، أزعج المخرجة الشابة التي كلّما حضرت أفلامها في محافل سينمائية دولية تمّ ترشيحها للفوز بجوائز.
ولعل مردّ ذلك ذكاؤها في اختيار مواضيع مختلفة عن السائد بين أبناء جيلها، فقصصها الثائرة تلامس وجع الإنسان اليوم، منها قصص الاغتصاب والفقد والمراهقة وغيرها، كفيلم «على كف عفريت» وما حمله من دلالات عن اغتصاب وطن برمته عبّرت عنه جملة في أول الفيلم «جاية تشكي والبلاد على كف عفريت».
أما في «الرجل الذي باع ظهره»، فتصوّر بن هنية معاناة لاجئ سوري اضطرته الحرب الدائرة في سوريا للسفر إلى لبنان. هناك، يلتقي في أحد المعارض الفنية بجيفري جودفرا الفنان الأميركي الشهير، ويعقد معه اتفاقاً يتمثل في الرسم على ظهر «سام» (البطل) مقابل حصوله على فيزا للسفر إلى بلجيكا ولقاء حبيبته.
يحقّق عمل الفنان الأميركي على ظهر البطل نجاحاً يجعله يقدّر بمبالغ مالية مرتفعة في المزادات، ثم ينتهي الفيلم نهاية وردية بلقاء «سام» بحبيبته على أرض سورية. ولعله حلم المخرجة والكاتبة بعودة اللاجئين إلى ديارهم حتى لا يكونوا عرضة لانتهاك حقوقهم.
تبدو القصة غريبة رغم طرافتها، إلا إذا ما علمنا أنّها استوحتها من أخرى حقيقية تعود إلى الفنان البلجيكي المعاصر ويم ديلفوي الذي رسم وشماً على ظهر رجل، ثم عرض العمل للبيع. واشتهر هذا الفنان برسم لوحاته على ظهور الخنازير، قبل أن يقرّر رسم واحدة متمثلة في صورة العذراء على ظهر رجل سويسري اسمه تيم شتاينر تحوّل إلى لوحة تجوب المعارض الدولية، شأنه في ذلك شأن المنحوتات واللوحات الخشبية.
اختارت بن هنية الممثل يحيى مهايني لبطولة فيلمها وهو ممثل كندي من أصل سوري،في رصيده بعض المشاركات في أفلام قصيرة. وربما تكون المخرجة التونسية قد منحته فرصة النجومية مستقبلاً، خاصة أنّه مثّل إلى جانب الممثلة الإيطالية المشهورة مونيكا بيلّوتشي التي أدت دور ثرية تأثّرت بقصته.
إنّ ذكاء قصص أفلامها جعل بن هنية من الاستثناءات في العالم العربي وفي تونس أيضاً، وقد اتّجهت في بدء مسيرتها سنة 2010 نحو الوثائقيات في «الأئمة يذهبون إلى المدرسة» و«أنا وأختي»، ثم كان فيلم «شلّاط تونس» عام 2014 حيث عرض سلسلة حوادث وقعت في تونس العاصمة سنة 2003، وأثارت خوفاً وبلبلة في المجتمع. مفاد الرواية قيام شاب يركب دراجة نارية بالاعتداء بسكين على 11 امرأة كان يقوم بإصابتهن في أردافهن بآلة حادة ويلوذ بالفرار كشكل من أشكال معاقبتهنّ على ارتداء ملابس ضيقة. وقد عُرض الفيلم في مهرجانات دولية.
بعد سنتين، أخرجت بن هنية فيلم «زينب تكره الثلج» الذي حاز جائزة التانيت الذهبي في مهرجان «أيام قرطاج السينمائية» لسنة 2017.
تنتمي كوثر بن هنية إلى جيل شاب من سينمائيي ما بعد الثورة


وفي السنة نفسها، تكلّلت مسيرتها بفيلم «على كف عفريت» الذي شارك في «مهرجان كان»، ويتناول قصة حقيقية هزّت الرأي العام التونسي يومها عن فتاة اغتصبها رجال شرطة.
ولدت كوثر بن هنية عام 1977 في منطقة سيدي بوزيد في تونس (معقل الثورة لاحقاً) وهي منطقة محرومة اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً أيضاً، غير أن أحلام المخرجة قادتها نحو عالم لم تكن تعرفه إلا من خلال أشرطة الفيديو أو التلفزيون. انتقلت إلى تونس العاصمة لتدرس التجارة في بادئ الأمر، لكنها تحوّلت عنها نحو عشقها الأول السينما، لتنهي مسيرتها الدراسية بنيل شهادة الماجستير من المدرسة الوطنية العليا لمهن الصورة والصوت في باريس. تنتمي بن هنية إلى جيل شاب من سينمائيي ما بعد الثورة الذين نقلوا إلى الشاشة الكبيرة قضايا مجتمع كان مقموعاً عن التعبير حتى في المسائل الاجتماعية والجرائم كحادثة «الشلاط» أو ما يرتكبه البوليس من انتهاكات لحقوق الإنسان. غير أن هذه المخرجة الشابة تميّزت في آخر عمل أفرد جناحيها وفتح أعين الجمهور نحو أفق عربي وإنساني.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا