عن 93 ربيعاً، رحلت جولييت غريكو. إنها آخر رموز الزمن الذي شهدت فيه فرنسا انفجاراً فكرياً وفنياً وتحرّرياً، طبع القرن العشرين ببصمته وشكّل صورة البلد الأوروبي بُعَيد الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازي. إنها أيقونة الغناء والسينما والنضال والعشق والشبق. إنها مارلين ديتريش الفرنسية. يكاد لا يوجد اسمٌ كبيرٌ في مجال الثقافة، فرنسياً أو مرّ في فرنسا، إلاّ وكانت لها علاقة به: غنّت من شعره أو من ألحانه، أو ارتبطت به بعلاقة صداقة أو حبّ. وكما كانت تقول، لقد أرادت أن تكون خادمةً لهؤلاء، أو بتعبير أدقّ أمَتَهم، إذ كانت تعتبرهم آلهتها. حياتها فيلم، لو تخيّله سيناريست محترف وحشاه بكل الحالات والتفاصيل الشيقة سينمائياً، لما كان خرج بقصةٍ مذهلة بهذا القدر.وُلِدت جولييت غريكو في عام 1927 في كنف عائلة برجوازية، لأب من جزيرة كورسيكا وأمّ فرنسية. ترك والدها العائلة وأبخلت عليها أمّها بالحد الأدنى من العطف. عاشت عند جدّيها لأمّها. والدتها التي تحمل جولييت اسمها، ولو كانت فاشلة في دورها كأمّ، فقد كانت مناضلة في المقاومة التي نشأت إثر الاحتلال النازي لفرنسا، وأشركت معها ابنتها الثانية شارلوت وجولييت في النضال السرّي إلى أن اعتُقل الغيشتابو الثلاثة. رُحِّلت الأم والأخت إلى معتقل في ألمانيا وخرجت جولييت البالغة 15 عاماً بعد شهر، فوجدت نفسها على جادة فوش، لا تملك سوى بطاقة قطار. لجأت إلى أستاذتها في اللغة الفرنسية قبل الحرب في الحي الفرنسي الشهير، «سان جيرمان دي بري»، الذي سيغيّر حياتها وتسهم في تغيير طابعه، ليصبح مرتع المثقفين والفنانين اليساريين والشيوعيين. انخرطت مع هؤلاء في النضال الفكري الاجتماعي والغليان الفني وغنّت قضيتهم، إذ كرهت عائلتها البرجوازية وجعلت من هذا التيار عائلتها التي لعبت فيها دور الدينامو الذي كلّما اقترب من شخصية أوقد فيها طاقة الإبداع.

فستانها أسود دائماً وأداؤها تمثيلي ويداها كانتا تقودان الأغنية لحناً ونصاً

بداياتها في التمثيل، انطلقت بُعيد الحرب، وفي الغناء (ريبرتوارها الخاص) بعدها بقليل، عندما التقت بناءً على رغبة منه، فيلسوف الوجودية جان بول سارتر، الذي كان قد كتب أغنية Rue des Blancs-Manteaux لتستخدم في إحدى مسرحياته Huis clos، فأعطاها النص و«أرسلها» إلى جوزيف كوزما (صاحب Les feuilles mortes موسيقياً، التي غنّتها غريكو في أولى نسخها، إلى جانب تسجيل إيف مونتان طبعاً) لكي يعيد تلحينها. كرّت سبحة اللقاءات مع كبار شعراء ورموز الغناء الفرنسي، من ليو فيرّي وبوريس فيان وجاك بريفير وجاك بريل وجورج براسَنس و… سيرج غينسبور، الخجول الذي دعته في إحدى الليالي من عام 1962 إلى بيتها، فشربا الشامبانيا وتغازلا، ليعود سيرج ويتصل في اليوم التالي طالباً زيارة أخرى، موسيقية هذه المرّة، حيث جلس خلف البيانو وقال لها: اسمعي… وكانت La javanaise.
من وقعوا في حبّ غريكو بالعشرات وكذلك من بادلتهم هذا الحب. لكن القصة الأقوى والأحزن في هذا السياق تحمل، من جهة الشريك، اسم: مايلز دايفس. فقد كان بوريس فيان قد بدأ، بعَين النصر على النازية، بمشروع حقن النشاط الموسيقي الفرنسي بالجاز، وبدأ بدعوة الرموز الأصيلين الصاعدين. وصدف أن سكنت غريكو في الفندق ذاته مع مايلز (عام 1949). قرّرا الزواج، لكن النظام العنصري في بلاد العم سام قرّر خلاف ذلك. فمايلز لن يستطيع البقاء والعيش في باريس وبعض الولايات الأميركية تمنع الزواج بين السود والبيض. افترقا، ويقال إن ذلك كان قاسياً على مايلز الذي سيدخل إثره إحدى أصعب فترات إدمانه على المخدّرات القوية. لكن غريكو التي عشقت العشرات تزوّجت ثلاث مرات (فقط)، وعلى رأس شركائها الممثل العملاق ميشال بيكولي الذي سبقها قبل أشهر قليلة إلى خارج الحياة.
«سان جيرمان دي بري» سيغيّر حياتها وتسهم في تغيير طابعه، ليصبح مرتع المثقفين والفنانين اليساريين والشيوعيين


في أسلوبها وصورتها في الغناء ثوابت وتحوّلات. في الثوابت فستانها الأسود وأداؤها التمثيلي ويداها اللتان تقودان الأغنية لحناً ونصاً. يكفي أن تنظر إلى غريكو لتفهم الأغنية ويصل إليك شيء من مسارها الموسيقي وإيقاعها. في التحوّلات، تبدّل عندها الإلقاء ومخارج الحروف، إذ كانت أقرب إلى الأسلوب الذي يرتكز إلى الشدّ على الأحرف، على طريقة إيديت بياف، وهذا التوجّه تلاشى تدريجاً في النصف الثاني من القرن العشرين، في الأغنية الفرنسية وعند غريكو. أما التحوّل الآخر فأتى مع العمر، إذ كانت رمز الكاباريه الفرنسي، لتصبح أميرة المسارح الكبيرة والإطلالات التي انتظرها الملايين حول العالم، وآخرها جولتها الوداعية الأخيرة عام 2015/2016 التي أرادتها عربون شكر للجمهور الذي أحبّها، فعنونتها: Merci. الجولة لم تكتمل، إذ تعرّضت لجلطة دماغية، ألغت بعدها كل الحفلات التي كانت مقرّرة بعد لقائها الأخير مع الجمهور في 12 آذار (مارس) 2016، بعدما كانت قد واكبت النفس الجديد في الأغنية الفرنسية، من خلال تعاونها مع رموز حاليين، مثل بنجامين بيوليه وميوسَك وأوليفيا رويز وغيرهم. في مقابلة معها قبل عشر سنوات، سئلت جولييت غريكو عن الموت فأجابت: «لا أخاف الموت. ما يخيفني هو الحياة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا