في صباح أحد أيام عام 1983، استيقظت بيونس آيريس على غزوة ملصقات أعلنت العرض الأول لفيلم «بينك فلويد - الجدار» (1982). وقتها، لم تكن الأرجنتين قد تعافت كلياً من كابوس سنوات الدكتاتورية العسكرية. الملصق الذي يعرض وجهاً مشوهاً يصرخ من داخل جدار من الطوب الأبيض، كان غريباً يوحي بشيء خطير وغير مفهوم. قد يكون عادياً في أي مكان في العالم، ولكن في الأرجنتين المخدرة بالرعب، بات يمثل آلاف الصرخات القابعة داخل السجون العسكرية. كان وصول «بينك فلويد - الجدار» حدثاً في كلّ مكان. لفت الانتباه ليس فقط إلى فرقة الروك البريطانية الشهيرة، ولكن أيضاً بات اسم مخرج الفيلم السير آلان باركر (1944 – 2020) على كل شفاه، بخاصة لمجتمع ذلك العقد، الذي شهد انفجاراً شاملاً لثقافة الشباب. فيلم باركر كان عنصراً مهماً في هذه الثقافة، في مجتمع شبابي يستعدّ لتعلم ماهية الحرية. وآلان باركر، الذي انطفأ قبل أيام، سينمائي يمثل حياة وروح جيل كامل.

نشأ باركر في شقة صغيرة في منطقة الطبقة العاملة في إزليغتون غرب لندن. «كل شخص أعرفه، كان يريد أن يكون في فرقة موسيقية للهروب من هذا العالم» يقول باركر عن طفولته. كان الأول في منطقته الذي دخل المدرسة الثانوية. ثم بدأ العمل في مكتب بريد ثم شركة إعلانات وأصبح مخرجاً فيها. كان الطابق السفلي للشركة فارغاً، فاستخدمه لصنع الأفلام. أخرج مئات الإعلانات التجارية في السبعينيات، هذه كانت مدرسة السينما الخاصة به. جرب حظه للدخول إلى «بي. بي. سي» لكنها رفضت دخوله هذا العالم، إذ «كانت المحطة مليئة بالخريجين من جامعات النخبة» على حدّ قوله. ولأنه يريد فعلاً صناعة الأفلام، رهن منزله لتمويل فيلمه الأول. والنتيجة «باغذي مالون» (1976) فيلم عصابات، أبطاله أطفال (أكثر من 200 طفل، والنجمة جودي فوستر ابنة الـ 14 عاماً يومها التي ظهرت في العام نفسه في فيلم «سائق التاكسي» لمارتن سكورسيزي) يطلقون الكريمة من بندقياتهم ويتصرفون كالبالغين. فيلم مافيا لو صنع اليوم، لكانت صرخات أصحاب «الصوابية السياسية» وصلت إلى السماء. السيناريو الذي كتبه باركر استند فيه إلى القصص الذي كان يخبرها لأطفاله الأربعة خلال الرحلات الطويلة بالسيارة. كان الشريط فرصة باركر لدخول هوليوود، وبداية منافسة طويلة مع مخرج إعلانات آخر انتقل إلى السينما وهوليوود، هو ريدلي سكوت.
فيلمه الثاني جاء مختلفاً تماماً. «قطار منتصف الليل» (1978)، دراما سجن عن كتاب بيلي هايز الذي يسرد ما حصل معه عندما كان طالباً وانتهى به المطاف في سجن في تركيا لمحاولته أخذ بضعة أرطال من الحشيش مخبأة تحت ملابسه كتذكار من رحلته. شكّل الفيلم سجلاً واضحاً عن المحنة الجسدية والنفسية والتعذيب الذي تعرّض له هايز. توترت العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وتركيا بعد عرض الفيلم في «مهرجان كان»، ولم يكن باركر هو السبب، بل كاتب السيناريو أوليفر ستون الذي كان يحاول إثبات نفسه وقتها. في المحصّلة، اعتذر الجميع عن الصورة النمطية التي صوّر بها الفيلم الشعب التركي.
كان باركر محبّاً للموسيقى، فخمسة من أفلامه الروائية الـ 14 هي موسيقية، منها «الشهرة» (1980) الذي تحوّل لاحقاً إلى مسلسل تلفزيوني، دائم الحضور في مسرحيات برودواي. أشهر أفلامه الموسيقية «إيفيتا» (1996) صوِّر في الأرجنتين مع مادونا. نشأته كفرد من الطبقة العاملة، طبعت لغته السينمائية. عاش على حب الموسيقى، وكانت أفلامه خدمةً للتاريخ ولها. قدّم الفنانين في أعماله من دون أن يرتفع فوقهم. لعلّ أبرز مثال على ذلك «بينك فلويد - الجدار» الذي اختفى فيه باركر حرفياً خلف عبقرية كاتب الفيلم روجر ووترز. تعدّدت أنواع أفلام باركر، وكان متأثراً جداً بسينما مواطنه مايك لي. قدم الدراما العائلية في Shoot The Moon عام 1982. أفلامه الاجتماعية كانت محملة بالغضب. في «حريق ميسيسيبي» (1988)، قدم القصة الحقيقية لثلاثة نشطاء في الحقوق المدنية للأميركيين الأفارقة الذين اختفوا عام 1964. قدّم حرب فيتنام في فيلم «بيردي» (1984). قصصه غالباً ما تكون سيراً لأناس حقيقيين عاشوا في مجتمع غير عادل، هربوا منه من خلال الإيمان والغناء والرقص. وفي بعض الأحيان، تكون أعماله قاسية مثل فيلم الإثارة «قلب الملاك» (1978) الذي يصور الزنزانات العقلية للرجال الذين يحبسون أنفسهم فيها ويلقون حتفهم في نهاية المطاف.
توفي باركر قبل أيام، تاركاً سينما لا يمكن أن ينساها جيل السبعينيات والثمانينيات. حازت أفلامه عشر جوائز أوسكار، وعشر جوائز غولدن غلوب، و19 جائزة «بافتا». كان مبدعاً، كتب روايات ومقالات حول صناعة جميع أفلامه، أنجز رسوماً متحركة، وترك حزمة كبيرة من نصوص أفلام لم يصوّرها. رغم جوائز الأوسكار الذي حصل عليها، لم يكن محبّاً لهوليوود. اعتبرها كدفتر شيكات ولا يفهم كيف تعمل، ولا بأس بها طالما تتم تغطية الفواتير، وطالما أن الشخص هو الذي يستخدم الاستوديوهات لا العكس. قبل سنوات، فاجأ عالم السينما عندما أعلن اعتزاله بقوله: «المخرجون لا يتحسنون في سنّ الشيخوخة»، مضيفاً: «إنهم يكررون أنفسهم. ورغم وجود استثناءات، إلّا أنّ عملهم بشكل عام لا يتحسّن». بعد السينما، استخدم باركر الفرشاة والطلاء: «إنه لشيء منعش أن تكون مبدعاً من دون مساعدة 100 شخص آخر، يمكنني القول بصدق إنني مذ ركّزت على الرسم، كانت السنوات القليلة الماضية أجمل أيام حياتي». بعد اعتزاله، أعلن أنّ صناعة الأفلام هي صناعة مجنونة... عبارة يمكن فهمها لأنّ باركر، الذي انكبّ على الرسم في سنواته الأخيرة، كان يرى أنّ أجمل الصور هي تلك التي تقبع تحت أنوفنا!