لكن هل مات ريمون بطرس (1950ـــ 2020) أول من أمس حقاً؟ من يعرف المخرج السوري الراحل عن كثب، يدرك بأن صاحب «الترحال» كان ينتحر ببطء منذ سنوات، إثر خيبات متلاحقة وصدمات رقابية في تحقيق أي من مشاريعه السينمائية المؤجّلة التي غطاها غبار الأدراج. كان يكتب بقوة الأمل وحدها إلى أن يصل إلى حافة اليأس، فيطوي حلماً، ليبدأ حلماً آخر، وعندما يئس تماماً، ذهب في غيبوبة طويلة! على الأرجح، كان صوت نهر العاصي ـــ شريكه الدائم في معظم أفلامه ـــ يهدر في رأسه بوصفه شاهداً على تاريخ البلاد في نكباتها وتحوّلاتها وأوجاعها، وكان على شخصيات أفلامه أن تتطهر بماء النهر كي تتخلّص من آثامها، أن تزيل «الطحالب» عن جلدها، وأن تنظّف أرواحها من الخراب.ثلاثة أفلام روائية ونحو عشرة أشرطة وثائقية سعى ريمون بطرس خلالها لتظهير صورة أخرى لمدينته «حماة»، تلك المدينة الحائرة بين بداوة تاريخية، ومدنية خفرة. لكن هذه الصورة ظلّت مغبّشة في عدسة كاميراه، نظراً إلى صعوبة ترميم وأرشفة تاريخ طويل من العصيان، والمحاولات المتأرجحة بين السرديات المحليّة والتاريخ العمومي. ففي أولى تجاربه الروائية «الطحالب» (1991)، اشتغل على رابط الدم، وصراع الأشقاء على الميراث، بالإضافة إلى حكاية عشق محبطة تحيط بها قيود صارمة. لكن كلّ هذه المسالك الحياتية ستنتهي على ضفاف النهر بسرديات دائرية، كما يحدث لناعورة تروي حكاياتها بشجنٍ أبدي.
في فيلمه الثاني «الترحال» (1997)، سوف يشتبك بمشهديات بيئية تنطوي على هموم مدينة تتطلّع إلى أبعد من حدودها، إذ ينتهي معلّم الحجارة على دروب فلسطين متطوّعاً في الدفاع عن البلاد المنكوبة، وستنتظر العائلة عودة الأب بقطار من نزحوا من فلسطين إثر النكبة، من دون جدوى، وسيبتكر الراوي موتاً مشتهى لأب مصلوب مثل مسيحٍ صغير. مهنة نحت الحجارة تحمل أكثر من مدلولٍ حياتي وجمالي بالنسبة إلى ريمون بطرس، فقد عمل والده حجّاراً، ولطالما رافقه في طفولته إلى مقالع الحجارة متأملاً بعينيه المدهوشتين، كيف تتحوّل الصخور الصمّاء إلى أشكال فنية ساحرة: «كان والدي واحداً من أهم الحجّارين في مدينة حماه، وقد تعلّمت على يديه أسرار الحجر: كيف تحوِّل بالإزميل والمطرقة صخرة صمّاء إلى عمل فنيّ مدهش». كما سيضطر بعد عودته من معهد السينما في كييف إلى أن يستعيد إزميل الأب ومطرقته ويعمل في البناء، بعدما أُغلقت أبواب المؤسّسة العامة للسينما في وجهه طويلاً بتهمة الشيوعية.
بعد مكابدات شاقّة، سيحصل على فرصٍ سينمائية متباعدة، آخرها روائياً فيلم «حسيبة» (2008) المقتبس عن رواية لخيري الذهبي بالاسم نفسه، إلّا أن هذا الشريط بدا مرتبكاً جمالياً وسردياً، ربما لذهابه نحو بيئة دمشقية لم تُتح له التوغل في خصوصياتها وملمسها المختلف. اقتراحاته اللاحقة لتحقيق أفلام أخرى، لم تنَل رضى لجان القراءة في المؤسسة العامة للسينما، ما جعله يلجأ إلى تحقيق بعض الوثائقيات، والأفلام القصيرة، آخرها «أطويل طريقنا أم يطول؟» (2014)، وهو محاولة في ملامسة آثار الحرب على البلاد، ومعنى الهجرة والحنين وشغف العودة إلى التراب الأول. وسوف يتسلل ريمون بطرس إلى الكادر بصفته الشخصية، وسيغني موّاله المجروح جرياً على عادته في هذا المقام.
في سنواته الأخيرة، عاش ريمون بطرس في عزلة اضطرارية، يكتب سيناريوات لن ترى النور، وأفكاراً للصحافة، ومسودات أفلام يحلم بتحقيقها، واستغاثات وطنية لاستعادة سوريا الأليفة، بعيداً عن ولائم الموت المفتوحة، بحنجرة مجروحة وألمٍ لا يُحتمل. بإمكاننا تلخيص سيرة هذا المخرج بأنه صورة للشهامة والنخوة، وهما الثيمتان الأساسيتان في أفلامه، رغم مساعيه المجهضة لحفر سينما تشبهه أيديولوجياً وحياتياً في معالجة كسور مدينته حماة، قبل أن يوسّع فتحة العدسة نحو فسيفساء البلاد في جدارية بقيت طي مسوداته، مراهناً على هوية جمعية، وخطاب بصري يلحظ تنويعات الخريطة السورية بلهجاتها المتعدّدة، بقصد نفي التنويعات المتكرّرة لأفلامه: «كل فيلم صنعته ينهض على مقامٍ مختلف، ولكلّ معزوفة هارمونيتها الخاصة بها. ليس لنواعير حماه الأنين ذاته، إذا أصغينا بعمق إلى هدير الموج» يقول. أمس، دُفن ريمون بطرس على ضفاف العاصي في إغفاءة أخيرة.