إنها رحلة الصعود إلى المرئي، كلمات لا بد من أن تؤثر في سامعها، فكيف إذا ما كانت عنواناً لفيلم. «طرس، رحلة الصعود إلى المرئي» (وثائقي ـ 1:16 د ـــ 2018) هو عنوان فيلم المخرج اللبناني غسان حلواني يختلط فيه الوثائقي بالتجريبي من خلال البحث عن «مفقودٍ» شاهده المخرج قبل أعوامٍ طويلة، ثم عاد ليراه من جديد. ما هي الحكاية خلف تلك الصورة؟ ما هي القصة التي تختبئ خلفها تلك التفاصيل التي ترد في الفيلم؟ قد يسأل المشاهد/ القارئ ماذا تعني كلمة «الطرس»؟ إنها «الصحيفة التي محيت ثم كتبت»؛ فهل كان «الطرس» هنا في هذا الفيلم مباشراً كما أراده المخرج؟ يمكن اعتبار قضية المخطوفين والمفقودين في الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) أحد الجروح التي لم تندمل بعد حتى اللحظة. وللأسف، لا حل مريحاً لها، إذا لم يعترف أي طرفٍ من أطراف الحرب الأهلية بمسؤوليته عن غياب أحد. كما لا يعترفون بأماكن إخفاء لهؤلاء الأشخاص أو قتلهم لهم حتى أو حتى أماكن دفن جثثهم في حال باتوا في عداد الموتى. هذه القضية التي يقاربها «طرس» ومخرجه غسان حلواني ربما هي من أكثر القضايا الإنسانية حراجةً: إنها تضع المشاهد غير المشارك في تلك الجرائم الإنسانية أمام أفظع لحظات التوحش: أن تنتهي حياةُ فرد تختلف معه أنت من خلال اختفائه دونما أثرٍ ملموس؛ ودونما اعتراف بمسؤولية أحد عن مقتله أو رحيله أو اختفائه أو أي شيء مماثل.
«طرس، صعود إلى المرئي» شارك في الدورة 13 من «مهرجان أمستردام للأفلام الوثائقية» و«مهرجان أيام قرطاج السينمائية» (في إطار المسابقة الرسمية للمهرجان) والفائز بـ «جائزة فتحي فرج» لأحسن إسهام فني في «مهرجان القاهرة السينمائي» (في دورته الـ40 وتحديداً في مسابقة أسبوع النقاد الدولي)، هو فيلمٌ تجريبي، ذو تقنياتٌ كثيرة: الأبيض والأسود، تقنيات تحريك؛ لعبة تناقض الألوان (الأبيض والأسود ثم الأحمر كتعبير عن السخط/ المفاجأة، وأيضاً هو لون «الشهادة» في الثقافة المسيحية الكاثوليكية). غسان حلواني فجأة يصبح هو «الفيلم» لا مجرد مخرج وكاتب. في لحظةٍ ما تتداخل الأشياء بغتة من دون أن يدرك المشاهد: هو غسان حلواني ابن وداد وعدنان حلواني. قدر عدنان أن يفقد في الحرب الأهلية، وقدر وداد أن تتحول إلى أيقونة لجهة المطالبة بكشف مصير المخطوفين (كان المخرجان مي مصري وجان شمعون قد قدّما عنها فيلمين: الأول هو وثائقي بعنوان «أحلام معلّقة» والثاني هو «طيف المدينة»). هذا النشاط الحثيث لوداد (ليس وحدها بالتأكيد) دفع الدولة اللبنانية إلى إقرار قانون في عام 2018 يتيح كشف حقائق الخطف والاختفاء، فضلاً عن محاسبة المسؤولين عنها. بالعودة إلى الفيلم الذي يعرض اليوم في «متروبوليس أمبير صوفيل»، فهو يغوص عميقاً في التجريب. يريد غسان أن يقول قصته بطريقةٍ خاصة. يتداخل أحياناً الفن مع الوجع والألم.
يغوص الشريط عميقاً في التجريب

كاميرته دقيقة وكلماته دقيقة أكثر. يصعب اختصار مشاهد الفيلم من دون أن يراها المشاهد ويشعر بها، خصوصاً مع «وحشية» ما يراه: وحشية «شعورية/ متخيلة» أكثر من أي شيءٍ آخر. إنه يتخلص من «الناس» في فيلمه كما «غيِّب المفقودون في الحياة وفقدوا». إنها لعبة المخرج الذي يريد أن يشعر المشاهد، كما شعر أهالي المفقودين، أنهم غيبوا عن الواجهة، لكنهم يبقون في كل الحكاية، يبقون الحكاية في حدّ ذاتها. إنها فعلياً كما التسمية «صعود إلى المرئي» حيث يصعد هؤلاء المفقودون إلى المرئي بكل ما فيه من مباشرة، فهل يحتمل الباقون ذلك؟
يطرح «طرس» العديد من الأسئلة، لكنه أيضاً يحاول الإجابة عن كثيرٍ غيرها. إنها أسئلة من نوع مباشر في لحظة ما: أين ذهب المخطوفون؟ أين هم المفقودون؟ لماذا اختفت أو طمست صورهم؟ إنها« طرس» وإصرار على «طرس» الماضي من خلال محوه كما لو أنه لم يكن: اختفى هؤلاء الأشخاص، واختفت سيرتهم من جميع وسائل الإعلام، من جميع الحكايا، من جميع القصص والتفاصيل. حتى إنّها اختفت من «الحوائط» التي كانت صورهم تسأل عنهم. تجد فجأة في الفيلم مشرط المخرج باحثاً عن تلك الصور والقصص والحكايا المجهولة التي اختفت في لحظة ما وباتت نسياً منسياً. «طرس صعود إلى المرئي» هو أكثر من مجرد محاولة لإعادة أمرٍ مهم مختفٍ إلى الحياة، إنه في لحظةٍ ما السؤال عن المهم والأهم بالنسبة إلينا لا كمجرد بشر بل كمشاركين في هذه الجريمة. أوليس التجاهل أيضاً جزءاً من المشكلة؟ بالتأكيد هو وثائقي قد يعتقده بعض المشاهدين «ثقيلاً»، لكن ما خلف تلك المشاهد، هناك «أسئلة» أكثر من ضرورية كي يتكون ما يجب أن يكون: إجاباتٌ شافية تريح قلب أهالي هؤلاء المفقودين؛ اليوم وقبل أي شيءٍ آخر.

* «طرس، رحلة الصعود إلى المرئي» 20:00 مساء اليوم ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ـ يلي العرض حوار مع المخرج ـ للاستعلام: 01/204080 ـــ الدخول مجاني