سنرى غجراً يرقصون في البداية، ويخرجون من حناجرهم طعم الجبال في الأغنيات. تلك الصورة الريفية التي يختزلها الفيلم قصداً بالأصوات القوية والتي يمثل خروجها خروجاً من الحرب أو احتفالاً بهذا الخروج. بتسلسلٍ يكاد يرنو إلى العبثية، تذهب الفرقة والأصوات إلى عواصم «حِلف وارسو»، من برلين الشرقية إلى موسكو، وينتقل العزف من إطاره «الشعبوي» والجماعي على مسارح الاشتراكية الواقعية، ليصير أكثر فردانية وبآلات أكثر حميمية في باريس. وقد يبدأ النقاد من هنا. فيمدحون التصويب على الطبيعة القاسية للقمع الشيوعي. ومن هذه الزاوية أيضاً قد يخرج نقد مضاد، لأن المنحى الدعائي ضدّ الشيوعية البولندية ليس بريئاً دائماً وقد يكرر نفسه إلى حد التفاهة. لكننا في جميع الحالات أمام تحفة، تستعاد فيها المدينة الأوروبية بصورةٍ متقنة، لزمنٍ لم يكن متقناً.زولا المغنية الغجرية تبقى غجرية بفستانها وشعرها، وڤكتور يبقى عازفاً يحوّل اعتراضه إلى موسيقى. منفيان ومقيمان في آن.
منفيان من هيمنة تعود في جذورها إلى ما قبل التوتاليتارية، ومقيمان في هذه الهيمنة ويذهبان إليها بنفسيهما في آخر مشهدٍ من الفيلم. بافليكوفسكي يختار شخصياته بدقة. يحب قصّ كادراته كما يقص الحرفيون البراويز لحزن اللوحات العملاقة، ويحب تحويل الصورة إلى فلسفة بحد ذاتها، تخفف من ثِقل المحتوى. لكن إن كانت الفلسفة ضرورية لفهم العالم، فإن الشِعر ضروري أكثر لفهم الفلسفة. وليس بالقصد الشِعر الذي يقذفه المستَشعِرون، أو الفلسفة المقتطعة من روحها، إنما الشِعر بوصفه أداةً أنطولوجية توازي الوظيفة الفيزيولوجية للبصر، والفلسفة كروح تهدر في الزمن. وعندما تزدري زولا بصوتها الرقيق الشاعرة الفرنسية، فإنها بذلك تزدري نفسها، ولا تسجّل موقفاً ضدّ البورجوازية بالإصرار على اكتفاء البروليتاريا بالبساطة. مثل سفينة نوح في التوراة، كان هذا مشهداً مجانياً في الشريط. وفي أحيانٍ كثيرة، ورغم جلده للمظاهر القمعية في النظام الشيوعي، يبدو بافليكوفسكي ماركسياً خجولاً بماركسيته، أو شيوعياً يتنصل بخفة من شيوعيته. ينسحب مع أبطاله من ذاكراتهم، يتلطى بهم لينسحب مع بولندا نفسها من تاريخها، قبل أن يضطر إلى تقديم توضيحات صار مطالباً بها. ومثلما تقول الأغنية الريفية التي تتكرر كثيراً على مسرح هو بولندا، بتيتم الطفل وانسحابه من عيني أمه، يتيتّم فكتور في باريس، ويعود إلى زولا التي هي «امرأة حياته» كما يقول، وهي بولندا أيضاً. والثيمة هنا ليست ذكورية بقدر ما هي فرويدية. 
وربما، لأن التفلسف أسوأ من سوء الفهم، وادعاء الموهبة أسوأ من الاعتراف بوجودها، يبقى الفيلم قابلاً للحقيقة. لأن الشريط يبقى تحفة. ويبقى الفنان الذي يخوض الحرب بعد انتهائها ضدّ النظام فناناً، وهذا ما تعلنه العودة من خلف الأسوار المسيجة بثلوج شرق أوروبا. في الدرجة الأولى، لا يمكن فهم الفيلم من دون فهم موقع بولندا اليوم على خارطة العالم الجيوسياسية. فالشريط يأتي في هذا السياق: «حرب باردة». وإن كانت الحرب حروباً بين نزعة الهيمنة وتمرد الخاضعين، في مستويات متعددة ومعقدة، فإن بطلة الفيلم الأولى، ستبقى امتداداً لأعمال بافليكوفسكي الأخيرة. كما في «ايدا» (٢٠١٣)، يدور الفيلم حول بولندا أكثر من شخوصها. وهذا ليس من جرائم القومية، وليس تأريخاً في الوقت عينه. فالموقف من بوهيمية باريس، يصير موقفاً ضدّ فرنسا، أكثر مما هو موقف ضد أنتجلنسيا فرنسية. لكن، لا مفر من الإشارة، إلى أن في الشريط الأخير ثمة مبالغة بالحس القومي البولندي. وقد لا يوافق كثيرون على تصنيفها مبالغة، وبشيء من سوء النية يمكن اعتبارها على طريق المشهد في بولندا اليوم، التي ترزح تحت ضباب أحد أشد النماذج اليمينية ابتذالاً في أوروبا، وصل الدرك بها إلى التباهي بالمخلّص دونالد ترامب.
رغم جلده للمظاهر القمعية في النظام الشيوعي، يبدو بافليكوفسكي ماركسياً خجولاً بماركسيته، أو شيوعياً يتنصل بخفة من شيوعيته


بيد أن فكتور يبقى منفياً، ولا يجوز محاكمته على الحنين، أو محاسبة زولا لتعرضها الدائم للاستلاب والاستغلال. بعد كل شيء، لا يجوز محاكمة بولندا لأنها عادت بعد الاختفاء.
رغم كل شيء، يجد بافليكوفسكي مخرجاً، مكاناً رحباً لتسوية الالتباسات التي يقترحها علينا الشريط، بين الطبيعة البورجوازية للفن في فرنسا، وبين وارسو بحزنها. أضواء باريس التي تنتج كائنات أحياناً زائفة تشفع للمدينة الهائمة. وهذا مدخل لثاني النقاط التي تدور حولها  «حرب باردة». وهي ليست سياسية، إنما هي مزيج يكاد يكون بنيوياً، ويتشكل منها ما نعرفه عن الوعي البولندي المعاصر. الإبادة، القمع، ولاحقاً الكنيسة. هذه الهيمنة التي تنتقل في الزمن من مؤسسة إلى أخرى، كما يتنقل البولنديون في القطارات، هي بالضبط ما يحاول بافليكوفسكي استعارة الموسيقى لطرده، والكحول لتطهير الألم العميق وإخفاء الندوب، التي سرعان ما تظهر على وجه زولا، وعلى أصابع فكتور، وعلى جدران الكنيسة المحطمة في النهاية، حيث صارت تقيم البلاد كلها، حيث تكدست المأساة.
عموماً، وخارج الشريط، لن يصادف الباحث عن التزلف والسياحة ابتسامات كافية على الأرصفة في وارسو، ولن يرى فائضاً من الضحك في غدانسك. ورغم أن بافليكوفسكي يحاول اختراع السعادة دائماً، إلا أنه يكسوها دائماً بغشاء يئن من الألم، في عيني زولا وفي عيني فكتور، وقبلهما ايدا وخالتها. من يمكنه أن يكون سعيداً في بولندا أثناء الحرب، وبعد ما أفرزته؟ إنها حرب باردة لكنها حرب، وليس هناك ما يفرح في الحروب. وما يقوله بافليكوفسكي هذه المرة، من خلف كادراته المقصوصة بحرفية رهيبة، هو شيء واحد. الهزائم قد تكون شخصية وقد تكون جماعية. قد تكون صغيرة ومؤقتة وقد تكون كبيرة وعميقة. الهزائم تتفاوت دائماً، لكن الانتصارات لا وجود لها على الإطلاق.