هذه المرّة تمكّن جود سعيد من كسر الحصار حول أفلامه في المهرجانات السينمائية الدولية، من دون اشتباكات مع خصومه، وعبَر بأمان مع شريطه «مسافرو الحرب» إلى «أيام قرطاج السينمائية» في دورتها التاسعة والعشرين. كانت المفاجأة الأولى منح الفيلم «جائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين- Fipresci»، عشية حفلة الختام، وهي جائزة موازية للمهرجان يمنحها الاتحاد الذي يضم منظمات وطنية لنقاد السينما المحترفين من خمسين دولة، نظراً «لتميّز الشريط بالسينما المستقبلية، وتفرّد الشخصية الأساسية التي جسدها الممثل أيمن زيدان»، وتلتها ثلاث مفاجآت: جائزة الجمهور، جائزة أفضل صورة، والتانيت البرونزي للأفلام الروائية الطويلة. في عرضه الدولي الأول ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، استقطب الشريط جمهوراً غفيراً، غصت به قاعة سينما «الكوليزي» وسط العاصمة التونسية. ورغم انخراط المخرج السوري في مفردات سينما الحرب («مطر حمص»، و«رجل وثلاثة أيام»، و«درب السما») إلا أنه يذهب في سينماه إلى مناطق سردية مراوغة تعمل على تفكيك الشخصية السورية من الداخل، وفحص كيمياء الألم البشري التي لا تخلو من مسرّات عابرة تستدعيها عبثية الحرب نفسها. وإذا بنا إزاء مواقف متناقضة تقودنا إلى مشهديات فانتازية وتهكّميّة تتسرّب من قلب الفجيعة. في «مسافرو الحرب» (سيناريو جود سعيد، وأيمن زيدان، وسماح قتّال ـــ أداء أيمن زيدان، لينا حوارنة، حسين عباس، لجين إسماعيل، لمى الحكيم، لوريس قزق، أكرم الشعراني ـــ إنتاج شركة الأمير/ بيروت) يستدرك مخرجه عثرات ما سبق لجهة الهدم والبناء، وفتح الأقواس وإغلاقها، في سبيكة بصرية أكثر صلابة ونضجاً، بالاتكاء على مقومات الحكاية بوصفها البنية التحتية للسرد، على غرار ما تفعله الحكايات المتوالدة في «ألف ليلة وليلة» في القطع والوصل، لكنها ليالٍ جحيمية. هكذا يتكفّل بهاء (أيمن زيدان) بالمسرودات المركزية، فموظف الكهرباء الذي يسعى لإنهاء إجراءات نهاية الخدمة يجد نفسه محاصراً في حلب أثناء معركتها الكبرى. يقرر اللجوء إلى قريته في رحلة عجائبية داخل حافلة متهالكة، كما لو أنها صورة مصغّرة عن أنقاض المدينة وخرائب البلاد والتضاريس المتعبة للوجوه المنهوبة فزعاً. لكنه سيهزم أوجاعه المتراكمة بالحكاية وحدها، وباختراع وقائع لم يعشها تماماً، للتخفيف من وطأة خيباته المتتالية. يشعل مصباح الحكاية في العتمة التي تغرق المدينة بأسباب الهلاك، ويبني أحلاماً من الحجارة المهدّمة، في حكايات يرويها لابنته المهاجرة بقصد بث الطمأنينة في روحها، متجاهلاً وحدته وقسوة ما كابده في الحرب. لا يكتفي الشريط بمسلك واحد، إنما تتعرّج الدروب وتتشابك وتفترق لتكشف عن نماذج بشرية أفرزتها الحرب، في قرية مهجورة فقدت قيمها الأصلية واستبدلتها بأعراف جديدة تنطوي على سلوكيات هجينة تتخللها قصص حب وخيانة واستغلال وقسوة وهشاشة ووهم. لكن بهاء سيبقي مصباح روحه مضيئاً بقوة الحكايات وحدها، سواء ما يرويه لابنته أو لجاره الشاب، مراهناً على زمنٍ آخر، أقل قسوة ووحشية مما كابده في رحلته المليئة بألغام الوحدة والفقدان وابتكار الضحك لمقاومة الموت الوشيك. على المقلب الآخر، يبني جود سعيد مشهدياته بما يشبع كوادره البصرية الأخاذة، باستثمار أمكنة الحرب، وصوغ فضاءات موازية لطبقات الحكي بجرعات مدروسة بمهارة وإحكام.