الجونة | الدورة الثانية من «مهرجان الجونة السينمائي» الذي اختتم قبل أيام، أثبتت أنّ المهرجان أكثر من مجرّد «غلامور»، ونجوم يمشون على السجادة الحمراء. من الذكاء أن يعتمد مهرجان طازج على شباب بالدرجة الأولى، اتكاءً على خبرة بوزن مديره انتشال التميمي. المدير الفنيّ أمير رمسيس، والرئيس التنفيذي عمرو منسي، ورئيس العمليات بشرى رزة، ومحمد عاطف في فريق البرمجة، ومحمد قنديل وعلا الشافعي ورشا حسني وسارة نور في الجانب الإعلامي، وعدد كبير من المتطوّعين والمنسّقين... أمثلة على طاقات حيويّة. بعضهم يضطلع بمهام نوعيّة للمرّة الأولى في مسيرته. أيضاً، ثمّة دأب في البحث، وانتقاء الأفلام، والتشبيك. كثير من الكرم حمله برنامج حافل، موزّع على خمس شاشات كالتالي: مسابقة الأفلام الروائيّة الطويلة (15 فيلماً، منها 5 لصنّاع عرب). مسابقة الأفلام الوثائقيّة الطويلة (12 فيلماً، منها 4 لصنّاع عرب). مسابقة الأفلام القصيرة (23 فيلماً، منها 7 لصنّاع عرب). الاختيار الرسمي خارج المسابقة (18 فيلماً)، معظمها حقق جوائز في مهرجانات كبرى مثل صندانس وروتردام وبرلين وكان وكارلوفي فاري. البرنامج الخاص (5 أفلام)، لتكريم كلّ من برغمان (فيلمان) وفليني (فيلمان) ويوسف شاهين. الأخير خصّص باحتفاء، تزامناً مع ذكرى عشر سنوات على رحيله. معرض لـ 34 أفيشاً لأعماله، وحفل أوركسترالي فريد لموسيقى من أفلامه بقيادة المايسترو هشام جبر. مع فيلم الافتتاح («سنة أولى» لتوماس ليلتي)، تصبح الحصيلة الكليّة 74 شريطاً من 45 دولة، منها 11 عرض أوّل في العالم، و3 عرض دوليّ أوّل. عدد الأفلام ارتفع عن الدورة الأولى، ما أدّى إلى زيادة مدّة المهرجان يوماً واحداً. يكفي أن نذكر أنّ ٩ من أصل ٤٦ فيلماً طويلاً في البرنامج العام، تمثّل بلدانها في تصفيات أوسكار أفضل فيلم أجنبي، للدلالة على حسن اختيار فريق المهرجان.
كذلك، حضر النجم الأميركي باتريك ديمبسي مع عرض حصريّ للقطات من مسلسله الجديد Devils (2019). أوين ويلسون تجوّل بالدرّاجة من دون مرافقين في المارينا. جلس في حوار مفتوح مع الجمهور. أكّد أنّ حفل عمرو دياب جعله يستحضر سنوات حياته، تماماً كالأجيال العربيّة التي رافقت «الهضبة». «شطحة» مجاملة أطلقت ضحك الجمهور. كلايف أوين تسلّم جائزة تكريميّة تحمل اسم الراحل عمر الشريف. سيلفستر ستالون عبّر عن إعجابه بسحر مصر لدى تلقيه جائزة الإنجاز الإبداعي. هي الجائزة نفسها التي مُنحَت للمنتجة التونسيّة درّة بوشوشة، والسينمائي المصري داود عبد السيّد في حفل الافتتاح. هذا الأخير صنع مع صديق عمره يسري نصر الله لحظةً ستبقى طويلاً، ملقياً كلمةً دافئةً تعبّر عن تواضع جمّ، وتخترق الروح كأفلامه.
بالعودة إلى المسابقات، شكّل العرب ثلث المنافسين على جوائزها، التي يبلغ مجموعها 224 ألف دولار. في الروائي الطويل، شاهدنا «يوم الدين» للمصري أبو بكر شوقي، الآتي من مسابقة «كانّ» بجائزة «فرانسوا شاليه» لقيم الحياة والصحافة. «فيلم طريق» أخّاذ، فيّاض بالحميمية والمشاعر والجمال. ينتصر للمنبوذين والمهمّشين، في مواجهة ذات ومحيط وتاريخ وشروخ اجتماعيّة. شوقي فتك أيضاً بـ «أفضل موهبة عربية للعام» من مجلّة «فاريتي» الأميركيّة. التونسي محمد بن عطيّة عاد بشريط متوسط بعنوان «ولدي»، قادماً من «أسبوعي المخرجين» في «كانّ». لم يلامس الطموح بعد رائعته «نحبّك هادي» (2016)، على رغم بقائه في فلك أزمات العائلة والنضج وتفاوت الأجيال. بطل الفيلم محمد ظريف اجترح أداءً استثنائياً. حمله على كتفيه بمعنى الكلمة. في باكورته «مفك» الواصل من البندقية وتورونتو، اقترح الفلسطينيّ بسام جرباوي أفلمةً محكمةً لأزمة أسير، إثر خروجه من سجون الاحتلال. الأكثر إثارةً للجدل كان «يوم أضعتُ ظلّي» للسوريّة سؤدد كعدان. عمل سبقته سمعة مفرحة ولائقة بـ «أسد المستقبل» (أفضل فيلم أوّل لصانعه) من «مهرجان البندقية السينمائي»، وهي أرفع جائزة تحوزها السينما السوريّة منذ انطلاقها. سبب الجدل هو شبه الإجماع على أنّ الشريط لم يرقَ لمستوى التوقعات فنيّاً، على رغم الجهد الواضح المبذول فيه. في ذلك دروس عدّة. جوائز المهرجانات الكبيرة لا تعني التسليم الأعمى بسويّة العناوين الحاصلة عليها. أيضاً، تتويج من هذا العيار، قد يشكّل «عبئاً» على حامله في التجوال الدولي التالي. «حرب باردة» لبافل بافليكوفسكي (أفضل مخرج في «كانّ») تحفة من العيار الثقيل. جرعة أسكرت القلوب والعقول والأحاسيس. كذلك، لا بدّ من الإشادة بكلّ من «الوريثتان» (أفضل ممثّلة في برليناله) لمارشيلو مارتينيسي، و«الرجل الذي فاجأ الجميع» (أفضل ممثّلة في قسم «آفاق» ضمن الموسترا) لناتاليا ميركولوفا وألكسي شوبوف، و«هل تتذكّر؟» (3 جوائز في قسم «أيام فينيسيا») لفاليريو مييلي، و«أرض متخيّلة» (أفضل فيلم في لوكارنو) لسيو هوا يو، و«راي وليز» (جائزة لجنة التحكيم الخاصّة في لوكارنو) لريتشارد بلينغهام.
مسابقة الوثائقي ضمّت لآلئ نفيسة. «عن الآباء والأبناء» للسوريّ طلال ديركي تسلل إلى كواليس «الجهاديّين» في إدلب. ما هي يوميات هؤلاء، الذين لا نسمع إلا عن معاركهم ومفخخاتهم في نشرات الأخبار؟ كيف ينمو الأطفال في مناخ كهذا؟ إنّه سينما صرف. وثيقة تسجيلية نادرة. دراسة سوسيولوجية – أنثروبولوجية جادّة. رحلة داخل النفس البشريّة. تأمّل في سايكولوجيا صناعة الظلام. مانيفستو صارخ عن جانب مرعب من وطن لم يعد يشبه نفسه في كثير من الأماكن. لدينا أيضاً «الجمعيّة» للبنانيّة ريم صالح. بدفء وتعاطف، ترصد العدسة فقراء منطقة «روض الفرج» في مصر. تتنفّس معهم الصراع اليومي للاستمرار وتوفير مستلزماتهم البسيطة. تربّت عليهم، وفق إيقاع مشدود، ومعايشة على مدى ست سنوات.
الأفلام القصيرة تركت أثراً ملحوظاً، باحتوائها على مجموعة لافتة، خصوصاً العربيّة. «الحبل السرّي» باكورة السوريّ الليث حجّو عن سيناريو رامي كوسا. «بطيخ الشيخ» جديد التونسيّة كوثر بن هنيّة. «شوكة وسكينة» للمصري آدم عبد الغفار. «ما تعلاش عن الحاجب» للمصري تامر عشري، وهو الفائز بجائزة المهرجان لأفضل روائي عربي عن «فوتوكوبي» العام الفائت. حمولة غنيّة، مشغولة بلغة محكمة، وأسلوبيّات متنوّعة، وأناقة في التنفيذ. تشتبك بواقع مأزوم. تخلخل مفاهيم دينيّة واجتماعيّة شائكة. تنتصر للمستضعف. تسخر ممّن يستحق. المفاجأة السارّة تمثّلت في الإقبال الكبير على هذه الفئة، بصالات كاملة العدد.


الجوائز
فاز «يوم الدين» بجائزتي أفضل روائي عربي (20 ألف دولار)، وجائزة الجمهور «سينما من أجل الإنسانية» (20 ألف دولار). «نجمة الجونة الذهبية» للروائي الطويل (50 ألف دولار) ذهبت إلى «أرض متخيّلة». «راي وليز» نال الفضيّة (25 ألف دولار)، فيما حقق «الوريثتان» البرونزيّة (15 ألف دولار). محمد ظريف أفضل ممثّل عن «ولدي»، وجوانا كوليغ أفضل ممثّلة عن «حرب باردة». لجنة التحكيم منحت تنويهاً لـ «الرجل الذي فاجأ الجميع». في الوثائقي، نال «عن الآباء والأبناء» جائزتين من أصل 4 في إنجاز لافت: أفضل وثائقي عربي (10 آلاف دولار)، والفضيّة (15 ألف دولار). الشريط المدهش يواصل نجاحاته بعد جائزة لجنة التحكيم الكبرى لأفضل وثائقي أجنبي في صندانس، إضافةً إلى أكثر من 30 جائزة دوليّة حتى الآن. الذهبيّة (30 ألف دولار) راحت لـ «ألوان مائيّة»، والبرونزيّة (7500 دولار) لـ «المرجوحة» للبنانيّ سيريل عريس. «ما تعلاش عن الحاجب» أفضل فيلم عربي قصير (5 آلاف دولار). الذهبيّة (15 ألف دولار) نالها «أغنيتنا للحرب» لخوانيتا أونزاغا، والفضيّة (7500 دولار) «حكم» لريموند ريبا غوتيريز، والبرونزيّة (4 آلاف دولار) «بطيخ الشيخ». لكوثر بن هنيّة.


منصّة الجونة السينمائيّة
فعالية مخصصة لصنّاع الأفلام وعناصر الصناعة، بهدف تنمية وتطوير المشاريع العربيّة الواعدة ماديّاً وفنيّاً. تنقسم إلى «منطلق الجونة السينمائي» (الحصول على الدعم الفني أو المالي أو كليهما لمشاريع في «مرحلة التطوير» أو «مراحل ما بعد الإنتاج»)، و«جسر الجونة السينمائي» (منصّة حوار وتواصل بين السينمائيين العرب ونظرائهم الدوليين، من خلال حلقات نقاش وورش ومحاضرات). اختار المهرجان 12 مشروعاً في مرحلة التطوير (9 روائيّة طويلة، 3 وثائقيّة طويلة) من أصل 101، و6 في مرحلة ما بعد الإنتاج (3 روائيّة طويلة، 3 وثائقيّة طويلة) من أصل 44. هكذا، يستكمل الجونة ما بدأته مهرجانات مثل دبي وأبو ظبي. يحاول القبض على الجمر الأكثر إيلاماً للسينما العربيّة: التمويل ثمّ التوزيع.---


الجانب الآخر
ما سبق لا يعني أنّ كلّ شيء على ما يرام. ثمّة ما يجب الإشارة إليه، حتى لو لم يكن للمهرجان صلة مباشرة بجميع تفاصيله. منذ اليوم الأوّل، شكّل منح تأشيرات الدخول إلى مصر ما يشبه غيمة سوداء فوق رؤوس السوريين والفلسطينيين على وجه الخصوص. عضو لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائيّة الطويلة الممثّل الفلسطينيّ علي سليمان أعيد إلى إسطنبول من مطار الغردقة، ما أثار موجة تضامن واستنكار عارمة. زميله زياد بكري بطل فيلم «مفك» لم يمنح تأشيرة دخول أصلاً. كذلك حال السينمائيّة السوريّة سؤدد كعدان وبطلتا فيلمها «يوم أضعت ظلّي»، في حين حصل الممثّل سامر إسماعيل على التأشيرة في دمشق، إلا أنّه لم يحضر. ملف مزعج يفتح أرشيفاً لعدد من الحالات المماثلة، من سينمائيين ومسرحيين وشعراء وأدباء. وزارة الثقافة المصريّة مطالبة بتحرّك جديّ وفاعل في هذا الصدد. النقطة الإيجابيّة الوحيدة هي تضامن المهرجان مع «الضحايا» بتصريحات صحافيّة واضحة. علي سليمان ذكر كعضو لجنة تحكيم مع عرض صورته في حفل الختام، وهو تصحيح لعدم تسميته في الافتتاح.


على صعيد آخر، ما زال بعض «النقاد» مصرّين على تقييم فنيّة الأفلام حسب ميولهم السياسيّة. عقلية مضحكة ظهرت بوضوح إثر فيلمين يتناولان الشأن السوري: «عن الآباء والأبناء» لطلال ديركي، و«يوم أضعت ظلّي» لسؤدد كعدان. هكذا، يمكن أن يحوّل أحدهم شريطاً متقناً فنيّاً إلى هزيل وفاشل، لمجرّد أنّه لا يتوافق مع رأيه السياسي. العكس صحيح.