دمشق | منذ فترة، تم قبول فيلم «رجل وثلاثة أيام» للمخرج السوري جود سعيد (إنتاج المؤسسة العامة للسينما في دمشق، وتوزيع شركة «آدامز برودكشن») ضمن المسابقة الرسمية لـ «مهرجان السينما العربية» (28 حزيران/ يونيو حتى 8 تموز/ يوليو) الذي يقيمه حالياً «معهد العالم العربي» في باريس. أُعلن رسمياً عن العرض على صفحة المعهد على الإنترنت، بالتوازي مع إرسال دعوة للمخرج وبطاقة الطائرة وحجوزات فندق الإقامة ومواعيد المؤتمر الصحافي المرافق للمهرجان. لكن أمس، فوجئ جود سعيد بحذف فيلمه من المسابقة بالتزامن مع إلغاء صفحة الفيلم عن الموقع الإلكتروني التابع للمعهد! قرار اتخذته إدارة المعهد قبل أيام على افتتاح المهرجان، مما ولّد الكثير من التساؤلات حول خلفيات هذا التصرف. علماً أنّ الفيلم الذي انطلقت عروضه في دمشق أخيراً، تحدّث بشيء من الاختلاف عن دمشق المدينة المتكئة على جدار الحرب، بما في ذلك من ارتدادات وصدى لها في الداخل الثقافي. الفيلم ذهب إلى مساحات كانت غائبة نوعاً ما عن السينما السورية أو سينما الداخل كما يحلو للبعض تسميتها. سينما طاولتها اتهامات النمطية والبروباغندا منذ اندلاع الأحداث مطلع ٢٠١١، وقد حاول جود سعيد في فيلمه لمس النفاق الثقافي الذي استفحل مع تراكم سنين الأزمة عبر شخصية مخرج مسرحي تأنى الفيلم في معالجة المخاض الأخلاقي الذي عاشه إثر خبر وفاة أحد أقاربه. تكمن مهمة هذا المخرج في إيصال التابوت لمسقط رأسه، في وقت تغلغلت الحرب في كل التفاصيل. لذا، فمهمة من هذا النوع لا تختلف كثيراً عن مهمة توم كروز في فيلم «مهمة مستحيلة» لأنّ الحرب قسمت الحياة في سوريا شاقولياً، فالعودة كانت فعلاً تطهيرياً.تلك المعالجة كانت ربما سبباً هاماً في استقبال فيلم جود سعيد وإدراجه ضمن اللائحة الرسمية للأفلام المشاركة في «مهرجان السينما العربية». وما تسرّب من معلومات يؤكد أن مديرة المهرجان ليان الشواف لم تكن الجهة التي بعثت رسالة الرفض التي أعلمت جود سعيد بقرار حذف الفيلم من البرمجة. بل إنّ الرسالة الإلكترونية وصلت إلى المخرج ورحاب أيوب (مديرة شركة «آدامز برودكشن») عبر مسؤولة النشاطات السينمائية ماري دوسكورتير. وكانت حجة سحب الفيلم بحسب الرسالة أن «المعهد يمتنع عن التعامل مع أي عمل فني مدعوم من طرف النظام السوري»، مع أنّ الطلب الذي تمت الموافقة على أساسه لمشاركة الفيلم في المسابقة، أورد بصراحة أن «المؤسسة العامة للسينما» طرف أساسي في الإنتاج. فما سبب غضّ الطرف عن هذا التفصيل عند إرسال الفيلم الأولي وتحوّله إلى مبرر للمنع لاحقاً؟ ولماذا أرسل موعد سفر المخرج وتفاصيل إقامته وبقية الإجراءات الرسمية إن كان هناك مانع سياسي كما ذُكر في الرسالة؟ والأهم: ما الذي تغيّر خلال فترة وجيزة؟ ولماذا كانت إدارة المعهد صاحبة قرار المنع من دون أن تكون مديرة المهرجان طرفاً في مراسلاتِ إيصال هذا القرار لأصحابه، مع الإشارة إلى أن كل المعلومات الواردة موثقة في رسائل رسمية من الطرفين؟
في كل المحافل الثقافية والفنية العالمية، هناك جهات ضغط تمارس نشاطها تحت الطاولة. وبما أنّ المنع اعتبار إقصائي بدائي تُمارسه الجهات التي تم الضغط عليها - وحفاظاً على ماء الوجه - تحولت تلك الأساليب من المباشرة الصريحة إلى التهميش، في حالة فيلم جود سعيد و«مهرجان السينما العربية». بل إنّ الحاجة للإقصاء بدت مُلحة وإن على حساب صدقية المهرجان نفسه في دورته الأولى!
الفيلم يتناول مخرجاً لا يختلف أخلاقياً عن أولئك الذين ضغطوا لمنع العمل


ويبدو أن الجهات الضاغطة الرافضة لمشاركة فيلم سوري في مهرجان خارج سوريا اتبعت الطريقة نفسها في التحرك التي اتبعتها سابقاً مع أفلام أخرى من دون حتى الاطلاع على المحتوى سواء الفني أو الفكري للأفلام الممنوعة من العرض. والحجة الأساس دوماً أنها من إنتاج حكومي (المؤسسة العامة للسينما) في إغفال صريح وقصدي لفرصة للإطلاع والنقاش وربما الجدل الذي خُلقت الملتقيات السينمائية من أجله. وذلك بحد ذاته عنجهية وكيدية مغلفة بنفاق حاد، في الوقت الذي تمارس هذه الجهات أشد درجات التسويق السياسي لأفلامها كي تُفتح لها أبواب العروض العالمية في استغلال فاضح للمناخ السياسي العالمي وتوجهه. ديكتاتورية لا يمكن بأي حال من الأحوال تلطيفها أو تبريرها. لكن يبقى السؤال: ما مدى تأثير هذه الجهات على مهرجانات من نمط «مهرجان السينما العربية» في باريس؟ وما سبب رضوخ الأخير لهذا النوع من الضغط؟
ما حدث ليس بسابقة. هذه ليست المرة الأولى التي تمر فيها أفلام سورية من «إنتاج المؤسسة العامة للسينما» بهذه المواقف. سبق لفيلم جود سعيد «صديقي الأخير» (2013) أن سُحب من «مهرجان دبي السينمائي»، كما سحب فيلم «العاشق» (2012) للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد من «مهرجان قليبية التونسي». وبعد اختيار جود سعيد ليكون عضو لجنة تحكيم «مهرجان قليبية»، تم إعلامه بسحب الترشيح عام ٢٠١٢. وما زالت عالقة في الذاكرة الضجة التي أحدثتها مشاركة فيلم سعيد «مطر حمص» (2017) في قرطاج العام الفائت… أمور جعلت الأفلام المنتجة من قبل «المؤسسة العامة للسينما» معرّضة دوماً للحصار في غيابٍ إعلامي حقيقي يضيء على قرارات تضع على المحك الكثير من المفاهيم المثالية للجهات المانعة والضاغطة. المثير للسخرية أنّ فيلم «رجل وثلاثة أيام» تناول بصيغة نقدية مخرجاً مسرحياً لا يختلف أخلاقياً وفكرياً عن أولئك الذين ضغطوا باتجاه منع هذا الفيلم.