دمشق | من دون سابق إنذار، رحل محمد قنّوع (1973 ــ 2023) بكل ما يحمله الهول والفاجعة من معنى. شُيّع جثمان النجم السوري الراحل يوم الأحد الماضي من مستشفى «دار الشفاء» في دمشق، وتمت الصلاة عليه في «جامع المزّة الكبير» في حيّ «الشيخ سعد»، قبل أن يُوارى الثرى في مقبرة المزّة. الخبر كان صاعقاً! اكتفى «أبو مروان» بتسعة وأربعين عاماً من هذه الدنيا، وقال وداعاً إلى الأبد. السبب سكتة قلبية بعدما قصد عيادة الطبيب قبل أيّام ليجري فحصاً احتياطياً، اكتشف خلاله انسداد خمسة شرايين، اضطره إلى إجراء عملية قسطرة وتركيب شبكات ليُكمل حياته بشكل اعتيادي. لكن القدر لم يمنحه سوى أيّام معدودة، قبل أن تتدهور صحّته مساء السبت الماضي ويُنقل إلى مستشفى «الأسد الجامعي»، ثم حُوِّل إلى «دار الشفاء» حيث فارق الحياة.محمد ابن عائلة فنية عريقة، اشتغلت لسنوات على المسرح الكوميدي «دبابيس» تحت اسم «الأخوين قنوع»، وقوامه أحمد وعدنان وهاشم ومروان. الأخير ممثل ومخرج البث المباشر في إذاعة دمشق، وعرّاب محمد، وربما ملهمه وصاحب الفضل بأن يشعل في روح ابنه هوس الفن المتّقد إلى الأبد. مع ذلك، سيمنع الأب ابنه من دخول «المعهد العالي للفنون المسرحية» وسيجرّب إقصاءه عن العمل في الفن، ويغلق باب فرقته في وجهه لسنوات، لرغبته العارمة بأن يختار درباً أقل وعورة وخيبةً. لكن شغف الابن كان أقوى. ورغم دراسته السياحة، توجّه الشاب نحو «المسرح الشبيبي» وحصد جوائز في «مهرجانات دمشق». لاحقاً، انحرف بمسيرته نحو بداية تلفزيونية خاطئة في الإعلانات التجارية. لكنه ترك حالة إيجابية في حضوره البدائي هناك، وتعلّم كيف يقف أمام كاميرا. لاحقاً، تمكّن وريث «فرقة دبابيس» من الوصول إلى منصّة «مرايا» وبدأ في اللعب في السلسلة الكوميدية الأكثر شهرة في تاريخ التلفزيون السوري، وأمام كوميديان بحجم ياسر العظمة.
منذ عام 1995، صار محمد قنّوع ممثلاً أساسياً لا يمكن استبداله في «مرايا». التجربة فتحت ذراعَي الكوميديا أمامه، وصار يُحسب حسابه في غالبية الأعمال الكوميدية السورية، فيما أسهمت صراحته المطلقة في تداول معلومات غير دقيقة عن كونه «اللئيم». الصفة لازمته في أدوار الشر التي لعبها ببراعة. حين يكون هناك دور لشخصية تجسّد النذالة والوصولية والانتهازية، يمكن أن يكون قنوع مرشحاً لتجسيدها والنجاح بها بعدما تمرّس في أداء هذه الأدوار التي يعرف جيداً كل قريب من صاحبها كم هي بعيدة كلياً عن شخصيته الوديعة في الحياة. المسيرة الطويلة جعلت صاحب الشخصيات البارزة في مسلسلات مهمة مثل «غزلان في غابة الذئاب» (فؤاد حميرة، رشا شربتجي) و«الولادة من الخاصرة» (سامر رضوان ورشا شربتجي وسيف الدين السبيعي) يتسلّم إدارة شركة إنتاج سورية مهمة هي abc (صاحبها عدنان حمزة)، ويبدأ بتجيير علاقاته الطيبة وفهمه القديم للدراما لصالح ما يمكن أن تنجزه. هذا العام، أطلّ قنوع للمرة الأخيرة في دورين متباينين. الأوّل في «زقاق الجنّ» (كتابة محمد العاص وإخراج تامر اسحق)، أما الثاني فكان في «العربجي» (كتابة عثمان جحى ومؤيد النابلسي وإخراج سيف السبيعي) الذي قطف فيه ثمرة نجاح وجهد واضحين عندما أدى الشخصية ببراعة وصنع منها «كاراكتير» اعتمد فيه الراحل بشكل لافت على صيغة ثابتة من الأداء تعتمد على التحكّم الدقيق بعضلات الوجه، والمبالغة بإظهار ردود الأفعال، إلى جانب العناية بالوعي الجسدي، والشكل البرّاني للشخصية، التي تبدو نكهتها كوميدية رغم أنها بعيدة عن ذلك ضمن خطّها السردي وتصاعدها البياني.
في الحلقات الأخيرة من المسلسل، يموت «شومان»، فينشر قنوع صورته على صفحته الشخصية على فايسبوك ممهورة بشارة الحداد، كتعبير منه عن حزنه على فراق هذه الشخصية التي صنعت له حظوة صريحة هذا العام. وهو ما اعتبرته الغالبية فألاً سيئاً لاحق صاحب الشخصية. في كلّ الأحوال، فقدت دمشق شخصية محببة ذات قيمة اجتماعية لصدقها الصريح وانسجامها الحقيقي مع منظومة اجتماعية محافظة. لم يكن محمد قنوع يخجل بمعتقداته، لذا ربما تختلف معه لكنّك حتماً ستحترم صدقه ومجافاته للمراءة والادعاء والتصنّع والانتماء للصدق العميق. لذا، أطال خطيب المسجد في جنازته في ذكر مناقبه، وخرج عشرات الآلاف يمشون وراء نعشه بمنتهى الحزن والمهابة!