إنها معركةُ ثقافةٍ قبل أي شيء؛ فبعد سرقة الحطّة والحمص والفلافل والبقلاوة والثوب الفلسطيني، يُكمل العدو الصهيوني لعبته من خلال «ثقافة التشليح» ومنطق أرض بلا شعب- وبالتالي شعب بلا هوية- على اعتبار أنّ الفلسطينيين بكل إرثهم الحضاري والجغرافي لم «يكونوا هنا». قبل أيام قليلة، شاركت المُتنافِسات على لقب ملكة جمال الكون 2021، التي يستضيفها كيان الاحتلال الصهيوني في 12 من الشهر الحالي، في نشاطٍ حمل عنوان «يوم بدوي في إسرائيل». زارَت المتَسابِقات منطقة النقب للتّعرف إلى «ثقافة البلد وتراثه». لكن السؤال البديهي هنا يكمن في معرفة أيّ تراثٍ يقصدون؟ وثقافة مَن التي تعرّفت إليها المتسابقات؟ تضمّن البرنامج قضاء يوم مع البدو بما فيه (حسب الصورتين أدناه) ارتداء «الزي التقليدي»، والتعرّف إلى المطبخ التراثي. لم يكذب الإسرائيليون في ما قدّموه للملِكات، فالزيّ هذا هو فعلاً الثوب التقليدي لسكان البلد. كما أنّ طبق «ورق العنب» هو من المأكولات الشهيرة في المنطقة، لكنّهم حرّفوا الحقيقة بسرقتهم ثقافة الشعب الفلسطيني وإلباسها لما يسمّى «بسكان إسرائيل». فمن أين للشعب اليهودي بفروعه الثلاث المعروفة: السفارديم القادمون من الشرق، الأشكناز القادمون من الغرب، والمزراحيم القادمون من البلاد العربية والشرق الاوسط؛ أن يكون له تاريخ وثقافة مشتركة؟ تاريخياً؛ لم يكن لهذه الشعوب المختلفة أي تقاليد، بنية، أو حتّى لغة موحدة، بل عملوا على توحيدها وتعليمها للمهاجرين إلى فلسطين بين أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين. والجدير بالذكر أنَّ العبرية الحالية هي مزيج من عدّة لغات أوروبية شرقية (كالألمانية، الهنغارية، البولندية وبعض الروسية والعربية). لربما ما يجمع بينهم شيء واحدٌ فقط: المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين.يسعى الكيان الصهيوني بكل ما أوتيَ من قوة ودعم عالمي وعربي، على تقديم أسطورة مفبركة عن وجوده. فالصورتان المأخوذتان من نشاط «يوم بدوي» تحملان رسالة ضمنية أبعد من اللغة المباشرة، حسب نظام تحليل رولان بارت السيميولوجي. ففي كتابه «أسطوريات» (1957)، يشرح الناقد الفرنسي والسيميولوجي رولان بارت عملية «أسطرة الحياة اليومية»، حيث يرى أنّ الأسطورة في زمننا لم تعد مرتبطة باستحضار الآلهة والخرافات والشخصيات التاريخية، بل هي عبارة عن منظومة اتّصال، صيغة من الدلالة، أو بتعبير أبسط: رسالة. قد تأخذ الأسطورة شكل نص مكتوب، دعاية، نص مسرحي، سينما، أو صورة، وتمثّل لساناً آخر نتحدّث به عن اللسان الأول (اللغة). يشبه الأمر فكرة «قراءة ما بين السطور» و ما أبعد من الكلمات المكتوبة كما هي، سواء كانت لغوية (كلمات) أم بصرية (صورة). في تطبيق فكرة بارت عن الأسطورة، تقدّم الصورتان للقارئ/ المشاهد رسالة مضلِّلة تظهر أنّ الثقافة الموروثة هي من تراث الإسرائيليين. لكنّها في الوقت عينه تفضح للقارئ غير الساذج ما تحرّفه الجهة المُنتجة للصورة: ثقافة الشعب الفلسطيني، أصحاب الأرض الأصليين.
ولأنّ الأسطورة حسب بارت هي «سطو مستمر على اللغة»، فهي تسرق الرموز والأيقونات والممارسات لتطبّع من خلالها رسالة تكون في أصلها غير طبيعية لكنّها تبرّئها عبر إضفاء طابع البساطة عليها. يؤدي ذلك إلى قبول الرسالة/ الأسطورة كما هي من دون جدلٍ حولها، وهو ما تطمح له دولة الاحتلال من خلال مثل هذه الأنشطة والمناسبات. فلنتخيّل المرشّحات القادمات من ألمانيا، السويد، المجر، نيجيريا، غواتيمالا، وغيرها من الدول بعد مشاركتهنّ في مثل هذا النشاط، سيقتنعن بأنّ هذا التراث هو مِلكٌ للإسرائيليين، وأنّ هذا الشعب «الطيب واللطيف» ليس إلّا على سلامٍ مع جيرانه العرب/الفلسطينيين. وماذا عن متابعي هؤلاء الملكات الذين قد يكونون لا يدركون شيئاً عن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي؟ وماذا عن العربي المُطبّع بعد سنواتٍ من اليوم، أو ربّما عقود؟ ألن يجد في مثل هذه الصور وثائق يدّعي عبرها صحة الرواية الإسرائيلية؟ ألا نسمع اليوم من يشارك في تطبيع ادّعاء الإسرائيليين بحقّهم في الأرض وبوجودهم التاريخي فيها؟ ألم يسمّي المستوطنون أطفالهم بأسماء شجر البلاد كاسم «إلان» الذي يعني شجرة البلوط، واسم «تامر» الذي يعني شجرة النخل، ليكبروا يوماً ما ويقولوا: جديّ ولد هنا، أو عاش، أو حتى «قاتل» و«قتل» هنا؟
إنها لعبة «القتل بالثقافة»، حيث تصبح ثقافة «المستعمر» هي «استهلاكٌ» و«قتلٌ» لثقافة «المُسْتَعْمَرْ» بشكلٍ كلي وعلني، وهنا تصبح المقاومة الثقافية، ضرورية ليس كفعلٍ إرتدادي، بل أيضاً كفعل يومي حياتي ضروري.

على الهامش
يتحضّر الكيان الصهيوني لحفل اختيار وتتويج ملكة جمال الكون 2021 اليوم، في مدينة إيلات السياحية المحتلّة. يمتدّ الحفل على ثلاث ساعات ستُبثّ مباشرة عبر قناة «فوكس» الأميركية بالإضافة إلى نقلها إلى مئة وثمانين دولة وإقليماً حول العالم. كان من المقرّر استضافة النسخة السبعين من المسابقة التي انطلقت في العام 1952 في كوستاريكا، كما أفادت منظمة ملكة جمال الكون في مطلع العام، وقد أكّدها حينها وزير السياحة غوستافو سيغورا. لكنّ المنظمة عادت وأعلنت في شهر تموز (يوليو) عن إقامة المسابقة في «إسرائيل».
دفع اختيار كيان الإحتلال كبلدٍ مضيف ببعض الدول إلى الانسحاب من المسابقة رفضاً للانتهاكات والمجازر التي تقوم بها الحكومة الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني. فسحبت حكومة جنوب افريقيا دعم ملكة جمالها لاليلا مسواني بعد الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد، ووضّحت الناطقة باسم وزارة الثقافة والفنون مسيشيبا كومالو أنّ حكومة بلادها ترفض أن تربط نفسها «بضمير حي» بالجرائم الموثقة تجاه الفلسطينيين. كما أيّد حفيد نيلسون مانديلا هذا القرار واصفاً إيّاه بالشجاع في ظلّ محادثات السلام التي يتغنى فيها الإسرائيليون بينما يقومون بعمليات قضم أراض واخلاء قسري لأحياء فلسطينية كحيّ الشيخ جراح في القدس. وللأسباب عينها انسحبت ملكة جمال اليونان رافاييلا بلاستير من المسابقة، بينما أصرّت الامارات العربية والبحرين على المشاركة للمرة الأولى في تاريخهما. وينضم المغرب للدول العربية المشاركة بعد أربعين عاماً من الغياب، عبر ملكة جماله كوثر بن حليمة التي رحّب بها مدير مكتب الاتصال الإسرائيلي لدى الرباط دافيد غوفرين متمنّياً لها «إقامة طيبة في إسرائيل وحظاً موفّقاً في المنافسات».