القاهرة | في الثلاثين من تموز (يوليو) الحالي، يكتمل مرور مئة عام على ميلاد «وحش الشاشة» فريد شوقي (1920 ـــــ 1998)، أشهر نجم شعبي ظهر في تاريخ السينما العربية، كما تمر خلال الشهر المقبل ذكرى وفاته الثانية والعشرون. ومع أن كثيرين تذكروا هذه المناسبة وحاولوا تكريم اسمه والاحتفال به، إلا أن اسم فريد شوقي، مثل بقية أسماء الخالدين الذين حلت مئوياتهم خلال السنوات الماضية، لم ينل بعد ما يستحقه من تقدير ودراسة وتوثيق للآثار الكبيرة التي تركوها في حياة المجتمع المصري والعربي.في ما يتعلق بفريد شوقي، تستحق مسيرته المختلفة عن أي فنان عربي آخر تأملاً وفحصاً يبيّن الكيفية الفريدة التي استطاع بها ليس فقط أن يصبح نجماً كبيراً، بل أن يحافظ على هذه الشعبية لأكثر من نصف قرن. تستحق هذه الشعبية أيضاً أن ندرس أسباب نجاحها واستمرارها فنياً واجتماعياً وسياسياً، لمزيد من فهم الظاهرة والمجتمع الذي ظهرت فيه.


في مقال للأديب حسن داود («الحياة اللبنانية»- 2 آب/ أغسطس، 1998) عقب وفاة فريد شوقي بأيام، كتب: «لفريد شوقي، وحده، من دون مجايليه، صور كثيرة متصلة، إذ لم تقطعها أو تباعد بينها غيبة. لقد لازمنا فريد شوقي منذ فتوته، إذ كان الأسرع عدواً ولكماً حتى مراحل كهولته التي جعلنا نتابعها، نحن المشاهدين، خطوة، خطوة. فريد شوقي بدا كما لو أنه يزاحم سنوات السينما مزاحمة، فظل بسبب ذلك فاقداً قوة الصورة الواحدة».
نعم، لم يكن لفريد شوقي قوة «الصورة الواحدة» التي يتم بها بيع النجم عادة: هذا رجل العضلات، وتلك نجمة الإغراء، هذا معبود النساء، وتلك سندريلا الرومانس... تلك الصور، أو الأقنعة التي أسسها «نظام النجوم» في هوليوود وسارت عليها صناعات السينما في أوروبا والهند ومصر وغيرها.
لفريد شوقي «أقنعة» كثيرة، والقناع هنا ترجمة لمصطلح «بيرسونا» الذي كان يُستخدم لوصف الأقنعة في المسرح الإغريقي، واستخدمه عالم النفس كارل يونغ ليصف أحد جوانب الشخصية وهو «القناع» الذي يرتديه كل شخص أمام المجتمع والآخرين، ثم استخدمه علماء الأنثروبولوجيا لوصف ظاهرة قناع النجم السينمائي كما فعل ليفي شتراوس في مقاله الشهير عن غريتا غاربو، أو إدغار موران في كتابه «نجوم السينما». لم يهتم فريد شوقي بالتمسك بقناعه الواحد، كما فعلت غاربو، أو ليلى مراد. في حالتيهما، يتوحد النجم مع قناعه ويرفض أن يستبدله أو يخلعه.
معظم النجوم يولدون فنياً بالقناع المناسب لهم، وفقاً لما تراه الكاميرا والجمهور والصناعة، لكن فريد شوقي ولد بدون قناع تقريباً، ومن الصعب على من يراه في بداية حياته الفنية أن يتخيله في أدوار أبعد من شخصية الشرير العابر التي كان يؤديها بطريقة تثير التهكم والضحك أكثر مما تثير الغضب والكراهية.
وصل شوقي إلى السينما عام 1946 مع فيلم «ملاك الرحمة» (تأليف وإخراج يوسف وهبي) في وقت كانت فيه السينما المصرية تضجّ بالنجوم أصحاب الأقنعة: الطيب المثالي عماد حمدي، الطيب الأخلاقي حسين رياض، الفتى الوسيم المهزار أنور وجدي، الفتى الوسيم المغوار كمال الشناوي، الفتى الأول الجاد شكري سرحان، ولم يكن لفريد شوقي الطويل القامة النحيل الأصلع القاسي الوجه فرصة وسط هؤلاء النجوم المحبوبين.
لكن فريد شوقي، مدفوعاً بشغف داخله شديد التطلع والإلحاح لكي يكون مؤدياً يتحلق حوله المعجبون، حقّق خلال سنوات معدودة ما لا يتوقعه أحد. تغلب على محدودية الموهبة في الدراسة والتدريب وتطوير أدواته كممثل باستمرار، وتغلب على محدودية القبول الجماهيري بتغيير ملامحه، إذ زاد وزنه ولانت ملامح وجهه وارتدى «الباروكة» ليغطي مساحة العري التي تتسع على رأسه. وقبل هذا كله تواجد في كل مكان وكل فيلم وكل مسرحية يمكن أن يشارك فيها، مهما كان الدور صغيراً أو مكرراً، انتظاراً للفرصة الذهبية واستعداداً لتحقيق أول تحول كبير في حياته الفنية.
هذا التحول وهذه الفرصة واكبا تحولاً سياسياً هائلاً كان من شأنه أن يعيد ترتيب خريطة السينما المصرية ويخلق مناخاً جديداً مهيأ لصعود فريد شوقي، وهو ثورة يوليو 1952. وبالفعل بعد أشهر عدة على هذا التغيير، كان فريد شوقي يلعب أولى بطولاته في فيلم «الأسطى حسن» (إخراج صلاح أبو سيف)، الذي أدّى فيه دور عامل في ورشة «خراطة» من حي شعبي يقع في براثن غواية امرأة ثرية! وجدير بالذكر أن شوقي هو الذي كتب قصة وسيناريو الفيلم، وسوف يتكرر ذلك كثيراً في كل مرة تقريباً يقوم فيها بأحد تحولاته الهائلة.
استطاع فريد شوقي أن يواكب التحول السياسي والاجتماعي الذي أعقب عام 1952، وقدم نفسه للجمهور كواحد من أبناء الطبقة البسيطة الشعبية، مثلما فعل قادة الثورة! وراح يتتبع بنباهة تميز بها ميول هذا الشعب وهذا الجمهور، فقدم «حميدو» (1953)، مساهمةً منه في الحرب التي أعلنها قادة الثورة على المخدرات، و«جعلوني مجرماً» (1954) الذي يدافع فيه عن الفقراء الذين يضطرهم الظلم إلى السرقة، ثم «فتوات الحسينية» (1955) الذي يبشر بانقشاع دولة الظلم وزوال الحكم الفاسد وحلول عهد العدل، ثم «رصيف نمرة 5» (1956) الذي يواكب حملة جمال عبد الناصر ضد الرشوة والمخدرات. وعبد الناصر الذي أدرك مدى نجاح وشعبية فريد شوقي خلال هذه السنوات المعدودة، هو الذي كلّف شوقي إبان العدوان الثلاثي 1956 بإنتاج فيلم «بور سعيد» أول وآخر فيلم يدور بالكامل عن هذا العدوان والمقاومة الشعبية ضده.
مع نهاية الخمسينيات، دخل فريد شوقي مرحلته الثالثة كبطل حركة لا يشق له غبار في أفلام تقل فيها الواقعية ويتصاعد الخيال. كان لا يزال يعبر عن أحلام البسطاء والشعبيين، التي صعدت إلى عنان السماء مع قدوم الستينيات، وهي أحلام كبيرة لم تستند إلى أسس علمية أو واقعية سليمة. من أفلام هذه المرحلة «عنتر بن شداد»، و«الرجل الثعلب»، و«بطل للنهاية»، و«أمير الدهاء»، و«المارد»، و«الشيطان»...
مع هزيمة 1967، إنهارت أحلام البطل الخارق، فسافر إلى تركيا ليشارك في بطولة بعض الأفلام التجارية قبل أن يعود مرة أخرى إلى مصر، ولكن مدركاً أن الوقت قد حان لتغيير جلده مرة أخرى ودخول تحول جديد. ومثلما فعل من قبل، كتب فيلم «أبو ربيع» (1973)، عن كهل ذي قدم واحدة ينقذ «الأميرة الجميلة» من الأشرار. وكنوع من وداع «الأكشن» الشعبي الذي تميز به، شارك في العام التالي في بطولة فيلم «الأبطال» مع أحمد رمزي، وهو فيلم ينتمي إلى أكشن السبعينيات من كاراتيه وكونغ فو. وفي هذا الفيلم، يلعب شوقي دور رجل يضرب الأشرار على طريقته المصرية القديمة بالرأس والركل أسفل القدمين، مقارنة بأحمد رمزي الذي يلعب الكاراتيه.
استطاع أن يواكب التحوّل السياسي والاجتماعي الذي أعقب عام 1952


في العام التالي، يكتب فريد شوقي قصة فيلم «ومضى قطار العمر» ليدخل مرحلته الرابعة بقناع العجوز الطيب، الحكيم.
فريد شوقي الذي وصل إلى السينما المصرية وهي على وشك وداع الميلودراما، ولم يكن يتخيل أحد أنه يصلح لبطولة فيلم ميلودرامي، أصبح في السبعينيات نجم الميلودراما التي عادت بقوة، إذ شارك في عشرات الأعمال الميلودرامية الزاعقة التي سادت هذه الفترة، ومعظمها إعادات «كيتشية» لميلودرامات الثلاثينيات والأربعينيات.
في الوقت نفسه، شارك في العديد من الأعمال الفنية الجيدة التي صنعت خلال نهاية السبعينيات مثل «إسكندرية ليه» ليوسف شاهين، و«السقا مات» لصلاح أبو سيف، و«عيون لا تنام» لرأفت الميهي...
مع حلول الثمانينيات، بدأ فريد شوقي التركيز أكثر على التلفزيون، فقدم العديد من المسلسلات الناجحة، من دون أن يعتزل السينما تماماً، وقد استعان به مخرجو ما يسمى بـ«الواقعية الجديدة»، مثل محمد خان في «خرج ولم يعد»، وعاطف الطيب في «قلب الليل»، إلى جانب الكثير من الأعمال المتوسطة التي ظل يقبلها حتى نهاية حياته، تأكيداً لمقولته التي تنقلها عنه إيريس نظمي في كتابها «ملك الترسو» الصادر في بداية الثمانينيات: «سأظل دائماً موجوداً على الشاشة وعلى خشبة المسرح طالما أن الجمهور يريدني... وطالما أن الله يمنحني الصحة والقدرة على البقاء».
كانت المرة الأخيرة التي أرى فيها فريد شوقي خلال تكريمه في «مهرجان القاهرة الدولي» عام 1994. يومها، صعد إلى المسرح غاضباً ومنفعلاً بعدما اعتذرت شادية عن حضور تكريمها في اللحظة الأخيرة، وألقى كلمة حماسية مرتجلة وبديعة، عن أهمية الفن وقيمته في مواجهة قوى الظلام التي كانت تحاصر مصر وقتها.
الآن نحتاج إلى إعادة تأمل مسيرة فريد شوقي أكثر من أيّ وقت مضى!