كَم تَشتَكي وَتَقولُ إِنَّكَ مُعدِمُ وَالأَرضُ مِلكُكَ وَالسَما وَالأَنجُمُ
وَلَكَ الحُقولُ وَزَهرُها وَأَريجُها
وَنَسيمُها وَالبُلبُلُ المُتَرَنِّمُ
والماءُ حَـوْلَكَ فضَّةً رَقراقَةً
والشمسُ فَوْقَكَ عَسْجَدٌ يتَضَرَّمُ
(من قصيدة «كم تشتكي» – إيليا أبو ماضي).


يلخّص إيليا أبو ماضي في هذه الأبيات حال نورا جنبلاط. لديها الكثير لتشكو منه لكنها تجيد الحفاظ على تفاؤلها، عن قناعة وليس تصنعاً. كيف لا، وهي تجد من حولها مع كل مهرجان في بيت الدين ما يبعث على الأمل. مع كل صيف، يزهر قصر المير بشير مجدداً، رغم أن الزهور تذبل في وطننا، فمع كل فنان وفرقة موسيقية تعتلي خشبات مسرحه ترنّم البلابل من جديد. مهرجان بيت الدين، كما المياه التي شحّت يوماً في القصر قبل أن يعيد دفقها إليه «أخوت شانيه»، هو كالنسمة التي تعيد الحياة والروح إلى صرح الشهابي الكبير...
لو قُدّر للتاريخ أن يكون إنساناً، لكان اختار بلا أدنى شك أن يكون ممثلاً كوميدياً. لم يهدأ بال للأمير بشير الشهابي الثاني إلا بإعدام والي عكا وبناء لطلبه، غريمه الزعيم الدرزي بشير جنبلاط. ارتاح المير من آل جنبلاط سياسياً، فعادوا إليه من باب الفن ليجعلوا من قصره منارةً للثقافة والتلاقي. من صلب هذه الحكاية الدراميّة تتشرب روح «مهرجانات بيت الدين» التي انطلقت عام 1985. بين البشيرين ومنتصف الثمانينات، اختلفت الحكايا والأبطال والضحايا، لكن الدم بقي على حاله، دم لبنانيين تقاتلوا من أجل كل شيء وحصدوا اللاشيء، إلّا أن ما جمعهم هو الموسيقى. يقال إنّ اللبناني محبّ للحياة. التحدّي الذي حملته «مهرجانات بيت الدين» كان أن تحوّله من راقص «من شدّة الألم» على قول المتنبي إلى راقص من شدّة الأمل.

القصر بين نورين
نسأل نورا جنبلاط عن رأيها عمّا كان ليقوله الحاكم الشهابيّ لو تواصلنا معه ماورائياً عن المهرجان. جوابها عفوي مثلها، لا يحمل في طياته خفايا ولا نوايا، تقول بلا تردد بأنه «كان ليفرح ويفتخر، فالقصر الذي أراده عظيماً بات مقصداً عالمياً، وأصبح اسمه مرتبطاً بالفرح والحب.» لكن رغم إيجابيتها الطاغية، لا يمكن لرئيسة لجنة «مهرجانات بيت الدين» إلا أن تتحسر على حال القصر خلال باقي أيام السنة، خاصة أنه «محروم من الإضاءة الهندسيّة والفنيّة، والإنارة المتوافرة تقتصر على لمبات صغيرة هي في أغلبها محروقة. ونحن قد طالبنا منذ أكثر من 15 عاماً من وزارة السياحة أن تعمل على إنارة القصر بالشكل الذي يليق به على مدار العام، وما زلنا ننتظر. لذلك فنحن كلجنة مهرجانات نتكلف كثيراً كل عام على الإضاءة، التي تُبرز جماليّة القصر وهندسته بأدق تفاصيلها، وهو مشع ومتلألئ».
صورة القصر قبل المهرجان وبعده كما تنقلها جنبلاط، تعكس حال البلد الذي لا يراه بعضهم إلا دولةً صيفية، يكفي أن تضاء في مواسم ومناسبات معيّنة لإبهار السيّاح وإظهار أن الأمور بألف خير، فيما وخلف الأسوار البرّاقة، لا بل في قلوب كثيرين ممن يجلسون قبالة المسرح الكثير من الظلمة والأسى والعتمة التي تتمدّد أكثر وأكثر.

مهرجان ينازع
المفارقة أن الدولة المتهرّبة من واجباتها بتأمين الإنارة، لا تتردّد في الحضور على الموعد، لا بل قبل الموعد للجباية. نعم، حتى للاشيء ثمن في لبنان.
تكشف جنبلاط أن «الضرائب زادت وباتت تشكل حوالى 35% من سعر البطاقة. والمشكلة أنه يفرض علينا أن ندفع القسم الأكبر من متوجباتنا الماليّة للدولة سلفاً، وقبل انطلاق المهرجان وتنظيم أيّ حفلة وتأمين أيّ مردود، وإلا نحرم من الحصول على تأشيرة دخول للفنانين الأجانب». ولا تكتفي الدولة بذلك، فوفق رئيسة لجنة «مهرجانات بيت الدين» لا تفي بالتزاماتها الماليّة المستحقة عليها للمهرجان والمقرّة في قرارات لمجلس الوزراء، «وحتى الآن، لم تصلنا مستحقات عامي 2018 و2019، مع العلم أنه لا يزال لنا في ذمة الدولة مستحقات عامين آخرين لم نقبض أي فلس عنهما حتى اليوم».
الخلاصة: «المهرجان ينازع، ويصارع للاستمرار. فالبرامج تُبنى على أساس الميزانية التي نتقدم بها، ويصدّق عليها من ديوان المحاسبة وتأخذ في الاعتبار مساهمة الدولة التي تبلغ الثلث. ومع تخلّف هذه الأخيرة، فإننا نلجأ إلى الاستدانة من المصارف بفوائد عاليّة تتخطى نسبتها 9%، وهو ما يزيد من استنزافنا مادياً ويصعّب من مهمتنا وسعينا للحفاظ على معايير عالية وعالميّة للمهرجان».
الضرائب زادت وباتت تشكل حوالى 35% من سعر البطاقة


الفن أولاً
ترفض نورا جنبلاط أن تقرّش المهرجان، وأن تتعامل معه على أساس مشروع تجاري يقاس بميزان الربح والخسارة. عتبها واضح لكن بوصلتها لا تخطئ الهدف. المهرجان ربح مستمر مهما قست الظروف والأحوال. في هذا العالم حيث وكما يقال «الناس يعرفون سعر كل شيء ولا يعرفون قيمة أي شيء»، تشدّد جنبلاط على أن «خيارنا للفنانين والفرق يركزّ دائماً على القيمة الفنيّة والموسيقية وما الجديد الثقافي والإبداعي الذي بإمكانه تقديمه للجمهور لإغناء تجربته. من ثوابتنا إذاً التركيز على العصريّة والتميّز والإبداع، من دون التفكير في المردود المالي الذي يمكن أن نجنيه من خلال استقدام فنان معيّن. فأحياناً، يمكن للفن الهابط أن يجذب أعداداً غفيرة من الناس، وهذا ما لا نسعى إليه وما لا نرضاه».
مع هذا، تصرّ جنبلاط على أن «المهرجان ليس نخبوياً على الإطلاق، وهمّنا الأساسي والمستمر أن يصل إلى أكبر شريحة ممكنة من الناس، وأن تصل الرسالة التي يحملها إلى أبعد مدى. ونحن نحاول الحفاظ دوماً على التوازن بين الأعمال الفنيّة المتخصصة، إذا أمكن القول، والتي تتوجه إلى جمهور معيّن في الإجمال كالأعمال الصوفيّة والموسيقى الكلاسيكية، ومن جهة أخرى الأعمال التي تتوجه إلى فئات أوسع وأكبر».
أما عن كيفية اختيار الفنانين والفرق، وهل تلعب الأهواء الشخصيّة دوراً في ترجيح كفة أحد، فتجيب جنبلاط أن «لجنة المهرجان متنوّعة ثقافياً وعمرياً وتضم أساتذة جامعيين واقتصاديين ومحامين ومهندسين وإعلاميين وغيرهم من الشخصيات من أهل العلم والفكر، وهو ما يؤمن فضاءً رحباً وواسعاً لتبادل الأفكار ومناقشتها بموضوعيّة. بالتالي، هنالك ديموقراطية في اتخاذ القرارات وغالباً نتوصل إلى تفاهم على الخيارات. أما في حال عدم حصول إجماع وتوافق، فإن القرار الحاسم يعود إليّ وحينها أنا أتحمل مسؤولية قراري».



الفنانة قبل زوجة الزعيم

في بلد «الوسايط» والمحسوبيات، يصعب تصديق أن زوجة رجل بحجم وليد جنبلاط تسلمت رئاسة لجنة «مهرجانات بيت الدين» بالاستناد إلى كفاءتها الشخصيّة. لا تنكر نورا جنبلاط بتواضعها المحبب أنّ واقع أنها «زوجة زعيم هو عامل مساعد بلا شك، لكنّه لا يعني أن المهرجانات فُصّلت على قياسي أو أنني هبطت عليها بالمظلة وفُرضت عليها فرضاً». للأمانة المرأة لا تحب الحديث عن نفسها، لكن بعد إصرار تكشف أنها ليست بالطارئة على عالم الفن، فهي «نشأت في بيت فني، ووالدتي كانت رسامة وجميع أفراد عائلتي شغوفون بالموسيقى ويجيدون اللعب على آلات متنوّعة. وأنا على المستوى الشخصي، درست الفنون الجميلة في الـ École nationale supérieure des Beaux-Arts في باريس، وكانت لدي صالة عرض في التسعينيات حيث كانت تعرض أعمال لكبار التشكيليين، عدا عن شغفي ومتابعتي المستمرة منذ سن المراهقة للمهرجانات العالميّة». وتختم بالقول إنّها «كبرت مع المهرجان، وتعلمت منه الكثير، ومن خلاله تعرفت إلى الجمهور اللبناني الطيّب وإلى كبار الفنانين اللبنانيين والعرب والعالميين. أصبح المهرجان جزءاً مني وأنا جزء منه، أعيش حين يعيش».