من لندن الى بيروت فالعالم، مسار اختصره الفنان المخضرم عبد الحليم كركلا (1940)، في رحلته التي تطفئ هذا العام سنتها الخمسين. خمسون عاماً على تأسيس «فرقة كركلا» (1968)، حاكت من قصص الشرق وأساطيره وتعاقب الحضارات عليه، لوحات فنية راقصة، استطاعت بمختلف مشهدياتها المتكاملة إخراجياً وكوريغرافياً وأزياء، تجسيد روحية الشرق وتاريخه، الذي لم يقف عند تلك العصور، بل استقى منها عناصر من الحاضر وعصرنها.

ولعلّ هنا تكمن ميزة فرادة هذه الفرقة التي نهلت من أساطير الشرق وحضارته وجسدتها في قالب عصري. الفرقة التي انطلقت من على أدراج «معبد جوبتير» (بعلبك)، في عام 1971، عبر عمل «اليوم، بكرا، ومبارح»، عاصرت وكانت مساهماً في النهضة الفنية في لبنان، وهي اليوم تكون قد قدمت 17 عرضاً راقصاً، يزواج بين التراث واللغة العصرية، وحمل الهوية الثقافية اللبنانية والشرقية على حدّ سواء، وحتى ذهبت أبعد قبل عامين. إذ قدمت عمل «إبحار في الزمن: ع طريق الحرير» عبر جمع جناحي الشرق والغرب معاً. «لا نستطيع أن ننفصل عن تاريخنا (..)، لا بد من أن ننقل حضارتنا من الماضي بأسلوب معاصر الى الحاضر»، كلام يردده على الدوام مؤسس أول مسرح عربي راقص، الذي بنى وما زال على أمجاد الماضي، واشتغل على تزويده بروح عصرية محدّثة.
لا يمكن الحديث عن مسرح «كركلا» في يوبيله الذهبي، من دون أن نلتفت الى البصمة التي أرساها طيلة هذه السنوات، من لبنان، الى العالم مروراً بالبلدان العربية. رحلة إبحار قادتها الفرقة العريقة، عبر لغة الجسد، وتطويع المؤثرات البصرية والصوتية، في خدمة المشهدية الفنية الراقصة.


اليوم، تقف هذه الفرقة مجدداً، وللمرة الأولى في جبيل (17 و 18 آب/ أغسطس)، على مسرح «مهرجانات جبيل الدولية»، لتقدم عرض «فينيقيا الماضي الحاضر». العمل المخصص لبيبلوس، يستقي قصته من أولى المدن التي سكنت في الأرض، وتعاقبت عليها حضارات الشعوب. تحكي المسرحية الغنائية الراقصة (إخراج مسرحي: إيفان كركلا، كوريغرافيا: إليسار كركلا، حوار أزياء وموسيقى: عبد الحليم كركلا)، قصة المبعوث الملكي للفرعون رمسيس الذي يصل الى معبد الآلهة في جبيل حاملاً الهدايا معه وورق البردى لتخلّد عليها حروف جبيل الذهبية. بعدها يُستقبل المبعوث من قبل الملك أحيرام، ويُقام له أبهى الاحتفالات الطقوسية. سريعاً، ينقلنا الزمن الى رحلة أخرى الى فضاء «فينيقيا» الى ساحة قرية لبنانية، حيث يبدأ أهاليها بالتوافد حاملين عاداتهم وتقاليدهم. وسرعان ما يحول الأمر بينهم الى نزاع وعداء.
مشاركة هدى حداد، غبريال يمين، رفعت طربيه، جوزيف عازار، ومنير معاصري

وسط هذه الأجواء السوداوية، تطل قصة حب بين فتاة وشاب، ويتحوّل بعدها الأعداء الى أخوة. يشارك في العمل الى جانب فرقة «كركلا» الراقصة، الفنانون/ات المخضرمون، الثابتون في الأعمال المسرحية الغنائية للفرقة: هدى حداد، غبريال يمين، رفعت طربيه، جوزيف عازار، منير معاصري.. الى جانب المستشار الثقافي للفرقة الشاعر طلال حيدر، و«عميد الفولكلور» عمر كركلا. يتميز العمل ــــ كما يقول لنا القائمون عليه ــــ بأنه يقوم على «دمج الماضي» بلغة مسرحية، عبر استخدام المؤثرات البصرية (يساند المسرحية فريق تقني آت من خارج لبنان)، وتطويعه ضمن المسرح الحديث. إنه «تحدٍّ ذاتي» للفرقة الراقصة العريقة وفق ما يضيف هؤلاء. تحدٍّ أرادوه «تحية» لبيبلوس، للحفاظ على «الهوية التي في طورها الى الاختفاء»، ضمن سينوغرافيا وديكورات ضخمة، ركت كلها إلى «إيصال رسالة لبنان الحضارة، الجمال» ومنه الى العالم، عبر جولة تنوي الفرقة القيام بها، بعيد تقديمها «فينيقيا الماضي الحاضر».