في العادة يوضع المجانين في مصحات وتجرى عليهم شتى الاختبارات والتحاليل ليعودوا إلى رشدهم. في بيت الدين القصة مختلفة، كأن قدر هذه البلدة أن تتآلف والجنون منذ «أخوت شانيه» وصولاً إلى مهرجاناتها الدولية التي انطلقت عام 1985. حينها، كانت الهستيريا تهيمن على لبنان منذ 1975. فما الضرر إذاً أن تضيف بيت الدين جنوناً على جنون؟ أو ليس الفن ضرباً من الجنون؟ أرادت «مهرجانات بيت الدين» أن تثبت أن في لبنان مجانين من طراز مختلف. مجانين لا يزالون يؤمنون بأن صوت الموسيقى يمكن أن يعلو على صوت المدفع، وبأن لبنان الذي أصبح مسرحاً للتقاتل لا تزال خشباته قادرة على الإبداع. اليوم بعد 33 عاماً على إزاحة الستارة للمرة الأولى عن مهرجاناتها، ترى رئيسة «مهرجانات بيت الدين» نورا جنبلاط أنه رغم كل الإنجازات التي تحققت، فإن «سياسة» المهرجان لا تزال تهدف إلى إضفاء علامة الحياة.

رسالة سلام وتلاقي
انطلقت مهرجانات بيت الدين في وقت كان همّ اللبنانيين الأساسي يتمحور حول تأمين لقمة العيش والبقاء على قيد الحياة. كيف تعيد غرس بزرة الحب في أرض حرثها الدمار؟ كيف تقنع من اعتاد على تسميات كـ «أبو الجماجم» و«رامبو» أن يأتي ليسمع كاظم الساهر يغني الحب والرومانسية أو لكي يشاهد مسرحية؟ كيف تعيد تذكير الناس أن هنالك رقصاً مختلفاً عن الرقص بين الرصاص؟
هذا كان التحدي الأساسي لـ «مهرجانات بيت الدين» التي هدفت منذ اللحظة الأولى لأن تكون «رسالة سلام ومنصة للتلاقي والحوار، ومد يد للآخر كراقصين يتشابكان لخلق لوحة فنية. وهي نجحت في خلق مساحة تعاون بين اللبنانيين على مختلف انتماءاتهم، وفي أن تكون صرحاً فنياً ولو في عز الحرب» على حد تعبير نورا جنبلاط.

غرست «مهرجانات بيت الدين» روح الأمل في بلدٍ سكنه الألم. أتت في توقيتها كصفعة لشعب فقد الكثير من إنسانيته لتوقظه من جديد. وضعته أمام مرآة ليرى الآخر فيه، كشيخ يتذكر شبابه ويحن إليه. لم تمحُ «مهرجانات بيت الدين» التجاعيد التي خلفتها سنوات من الحقد الأعمى، لكنها سعت لإبراز جمال الروح التي بقيت تنبض رغم السنوات العجاف. ندوب كثيرة بقيت محفورة وهو ما تذكر به نورا جنبلاط التي تشدد على أن «الحاجة لا تزال موجودة لإبراز رسالة الحياة والإنسانية التي تجمعنا كوننا للأسف ما زلنا نلاحظ أن ما بني خلال عقود يمكن هدمه في لحظات» جراء التشنجات السياسية المحلية والإقليمية والدولية.
ولا تنسى التذكير دوماً بالدور الكبير الذي لعبه الفنانون والفرق الذين اعتلوا خشبات مسرح القصر العريق و«بدّوا الرسالة الإنسانية والثقافية على البعدين المادي والشخصي. فهم أتوا لإيمانهم بمشروع كبير وبإعادة إبراز الهوية الحضارية والثقافية للبنان».

الشباب ولبننة أكثر
بعد 33 عاماً، ترى جنبلاط أن تنظيم المهرجان عاماً بعد عام لا يزال يكتنزه العديد من الصعوبات لناحية تقديم محتوى جديد ومتميّز، بخاصة في ظل تنامي المهرجانات على مساحة لبنان وقد باتت تفرض منافسة إضافية.
وفي هذا السياق، تعترف جنبلاط بنوع من التقصير تجاه الأعمال الفنية اللبنانية، وهو ما ستسعى إدارة المهرجان لمواجهته من خلال تقديم أعمال محليّة أكثر. أما السبب في هذا «التقصير»، فتعزوه جنبلاط إلى «ضعف قدرتنا على تمويل مشاريع كبيرة سنوياً من جهة وإلى الحاجة إلى تجديد وتطوير الأعمال اللبنانية لترتقي إلى المعايير العالمية من جهة أخرى».
«نجحت المهرجانات في أن تكون صرحاً فنياً ولو في عز الحرب»


من ناحية أخرى، يشكل جيل الشباب تحديّاً جدياً أمام أي مهرجان أينما كان نظراً لتنوع أهوائهم ورغباتهم ومنطلاقاتهم الثقافية… فكيف إذا كان المهرجان يقام في قصر بني في أوائل القرن التاسع عشر حيث تخبئ حجارته وغرفه ودهاليزه صفحات من تاريخ قلما يهتم بها شباب اليوم؟
تدرك جنبلاط هذه المعضلة. لكن رغم الواقع الذي نعيشه، فإن «المهرجانات قدمت ولا تزال مادة فنية شبابية من ضمن مواكبتها لروح العصر، إنما ضمن ضوابط المكان والتراث، واحتراماً لهذا الموقع الأثري الذي هو أيضاً مقر صيفي لرئاسة الجمهورية. بالتالي ورغم مواكبتنا للحداثة، إلا أن مهرجانات بيت الدين ليست مكاناً لحفلات الهارد روك على سبيل المثال».
وفي ما يتعلق بتكاثر المهرجانات التي بات يرتبط كل منها بزوجة رجل سياسي وتستخدم كمنصة للترويج الحزبي، تشدد جنبلاط على أن «مهرجانات بيت الدين تعمل باستقلالية وحدودها لبنان ولبنان فقط. ووليد جنبلاط لم يتدخل يوماً في سياسة المهرجان وبرنامجه ولم يسع لاستخدامه كمنصة سياسية على الإطلاق. ولا أنكر أننا واجهنا صعوبة في البداية، لكننا تركنا للتجربة ولعملنا إثبات هذه الاستقلالية».
أما عن تجربتها منذ انضمامها للجنة مهرجانات بيت الدين عام 1987، فتكتفي جنبلاط بالقول: «تطورت مع تطور المهرجان».