صيفاً بعد آخر، يتخذ موسم المهرجانات في لبنان طابع التحدّي الوطني! كل هذه المبادرات، تحت راية الفنّ والإبداع، القديم منها والمستحدث والمستعاد، تبدو إصراراً على تغليب وجه لبنان الحضاري ـــ وجه الإبداع والانفتاح والتعدديّة واللحمة الأهليّة والعزّة المحليّة ـــ على كل التحديات والأزمات والمخاطر.والموسم الحالي الذي بدأ أخيراً، ويستمرّ حتّى أوائل أيلول/ سبتمبر، يتخذ على وجه التحديد شكل التحدّي. السياحة ليست في أفضل حالاتها، والدولة نفسها تقف أمام الجدار المسدود، والاقتصاد يعاند على شفا الانهيار. لهيب الحرب الشاملة التي تشهدها المنطقة يلفحنا، بل ويكوينا، والضغوط الحياتيّة والأمنيّة، والأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والوجوديّة والمعيشيّة تحاصرنا. ومع ذلك سنحتفل!
هذا لا يحدث إلا في لبنان. بمزيج من العبثيّة والعفويّة والقدَريّة… يشعر الناس بأن بوسعهم أن يشهروا حبّهم للحياة في وجه الكوارث والانهيارات. من قعر الحفرة يحكون عن السعادة. وفي الدوامة المقلقة، يراهنون على المستقبل. يشعر الناس بأن من حقّهم، بل من واجبهم، أن يرقصوا على البركان، أن يفرحوا مرّة أخيرة قبل أن يأتي الطوفان.
والطوفان ننتظره من زمن طويل. لكنّه لم يأت. فلماذا يأتي اليوم؟ سنطلب منه أن ينتظر قليلاً، ونتصفّح برامج المهرجانات المختلفة من أعرقها إلى أحدثها، باحثين عن السهرات والمواعيد التي تتناسب مع ذائقتنا. من «بيبلوس» و«بيت الدين» و«بعلبك» و«إهدن»… إلى «صور» و«الأرز» و«بيروت» و«جونية» و«الزوق» و«الضبيّة» و«البترون» وحتّى «بيت مسك»… والقائمة تطول.
صحيح أن المفاجآت قليلة هذا الصيف، والمغامرات الفنيّة معدودة، ومستوى البرمجة لا يرقى إلى ما اعتاده الجمهور أحياناً. صحيح أننا سنُحرم الموسيقى الكلاسيكيّة أو فرق الروك العالميّة الكبرى. صحيح أننا نجد هنا أو هناك أسماء رائجة وأعمالاً تجاريّة، على قاعدة «سياسة السلامة»، لكن على المشاهد الذي يجلس في الجهة الأخرى من الخشبة، أن يتصوّر مدى صعوبة اقناع الفرق والاعمال العالميّة بالمجيء إلى لبنان اليوم، ومجاورة الأتون المشتعل. على المشاهد أن يعرف ما معنى أن تدعو عرضاً عالميّاً، وتقوم كمنتج بمغامرة ماليّة غير محسوبة النتائج.
هذا لا يعني أن نقبل الحدّ الأدنى و«نشكر النعمة»، بل أن نرى الجزء الممتلئ من الكأس، بين تانغو وفادو وفلامنكو وجاز وبلوز وطرب أصيل، بين بريلجوكاج وكركلا، بين جوزيه فان دام وزكي ناصيف، بين سيل وبويكا، بين كارول سماحة وسيا، بين غرايس جونز وعبير نعمة، بين مكسيم لوفورستييه ومرسيل خليفة، بين كاباريه هشام جابر، وبوب «مشروع ليلى»…
هذا يعني أن نواصل رهاننا: الثقافة في مواجهة الأزمة. لبنان الثقافي يتصدّى هذا الصيف، للهمجيّة والتعصّب والانحطاط.