اللامركزية لا تعفي المركز من الإنماء المتوازن
أنا أدعو إلى لامركزية موسّعة لا إلى الفدرالية، إنما لا أخوّن من يطالب بها. وأعتقد أن طرح الفدرالية اليوم سببه عدم تطبيق اللامركزية على مدى 32 سنة منذ اتفاق الطائف. والفرق بينهما يكمن في طبيعتهما وليس بالدرجات كما يعتقد البعض، علماً بأن اللامركزية الموسّعة مصدرها وثيقة اتفاق الطائف التي أُجمع عليها خلافاً للفدرالية. كان المشروع مطروحاً منذ عقود، لكن في عام 2013 في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي شُكّلت لجنة خبراء برئاستي قدّمت مشروعها في 2014، وتبنّاه النائب سامي الجميل في 2016، ثم شَكّلت لجنة الإدارة والعدل لجنة فرعية لمناقشته على مدى 67 جلسة. وأعتقد أن أهميته تكمن في أنه يتضمن مقاربة متكاملة بما فيها اللامركزية المالية، وهو ليس كاملاً بل هو مطروح للنقاش.
كان لافتاً في نقاشات اللجنة أنها تركّزت حول اللامركزية المالية - وهو نقاش سياسي وليس علمياً أو تقنياً - إذ إن المشروع تضمّن 40 مادة من أصل 147 مادة تتعلق باللامركزية المالية، ولم يكن هنالك ملاحظة جديّة حولها. أضف إلى ذلك أن البلديات تمثّل اليوم لامركزية مالية وموسّعة، لأن كل بلدية لديها صندوقها المالي الخاص وجبايتها المباشرة. وأعتقد أن الحديث عن خطورة اللامركزية المالية الموسّعة هو حديث سياسي. ومن وجهة نظري، إن اللامركزية الإدارية من دون مصدر تمويل هي عديمة الجدوى، ومن الأفضل عدم تطبيقها.
البلديات هي الخليّة الأساسية في اللامركزية، بينما الاتحادات تأتي طبقةً ثانوية. وفي مشروعنا لا نرفض الاتحادات، لكن نتصوّر شكلها على أنه بين بلديتين أو ثلاث وفي مشاريع محدّدة فقط. ورغم أنه جزئي أو تقنيّ، هناك بعض الحقائق الصحيحة، إنما لا يجب مقاربة اللامركزية على أنها إنفاق إضافي. فمعدل الانفاق المحلّي من مجمل الإنفاق العام في لبنان هو 5%، بينما المتوسط العالمي هو 27%. في بعض الدول مثل الدانمارك يبلغ 62%، وفي فنلندا 39%، وفي فرنسا 22%، وفي إيطاليا 34%. لذا، كان الهدف زيادة نسبة الإنفاق المحلّي إلى 25%، أي زيادة الإيرادات 20%.
ماذا يعني ذلك؟ هنالك مبدأ عام يقول إنه عند نقل الصلاحيات من السلطة المركزية إلى السلطة المحلية تنتقل الإيرادات من دون استحداث ضرائب جديدة. فعلى سبيل المثال، لماذا يجب أن تذهب إيرادات ضريبة الأملاك المبنية على العقار المعروف موقعه، إلى السلطة المركزية لتوزّع لاحقاً على المناطق بطريقة غير واضحة؟ لذا، من الأجدى أن تذهب هذه الضريبة مباشرة إلى صندوق مجلس القضاء. لنأخذ مثلاً آخر يتعلق بضريبة الدخل: في الماضي، كانت المصارف تسهم بمبالغ كبيرة من ضريبة الدخل، لكن اقترحنا أن يحوّل 20% من إيراداتها إلى الصندوق اللامركزي الذي سيحلّ محلّ الصندوق البلدي المستقل العاجز مالياً وهو في الواقع عبارة عن حساب في وزارة المال. ببساطة، نحن لا نقترح زيادة الضرائب، بل تخفيف المسؤوليات عن السلطة المركزية وتحويلها إلى المناطق حيث يمكن تنفيذها بفعالية أكبر.
أما بالنسبة إلى مسألة التنمية المتوازنة، فيمكن القول إن اللامركزية المالية تهدف إلى تحقيقها، لكن يجب أن نكون حذرين لنضمن توزيع حصّة من الواردات للمناطق الفقيرة. فمثلاً، اعتمدت في الصندوق اللامركزي، أربعة معايير لتوزيع الأموال؛ أولاً، مؤشّر مساحة القضاء. ثانياً، مؤشّر عدد المسجّلين. ثالثاً، مؤشر الجباية. ورابعاً، مؤشر التنمية (عملياً يوازي مؤشر الفقر المستخدم من قبل الـUNDP). كما أن الرقابة على الإنفاق يجب أن تكون لاحقة وليست سابقة وأن تكون قضائية بدلاً من إدارية.
المخاوف المطروحة بشأن التطبيق الطائفي للامركزية موجودة أصلاً حتى لو لم تُطبّق اللامركزية


هذه المعايير الأولية، رغم أنها عادلة، تحتاج إلى التطوير. كما أن الإنماء المتوازن يستدعي تدخل السلطة المركزية لأن تطبيق اللامركزية لا يعفيها من مسؤوليتها. ثمة مثال على ذلك في مسألة النفايات: المقارنة بين مركزية النفايات في الناعمة، ولامركزية النفايات في صيدا، تظهر أن الأولى فشلت، بينما الثانية استمرّت ونجحت.
الفرق بين الفدرالية واللامركزية هو أن الأولى تشرّع قوانين محليّة وتشغّل مشاريع تربوية محليّة، بينما الثانية لا تفعل ذلك. فاللامركزية تحترم الخصوصية المناطقية من جانب غير طائفي، علماً بأنه يجب طرح نظام انتخابي عادل في إطار تنظيم البيت الداخلي. أما المخاوف المطروحة بشأن التطبيق الطائفي للامركزية فهي موجودة أصلاً حتى لو لم تُطبّق اللامركزية. البعض يقول إن هناك لامركزية قائمة، والبعض الآخر يذهب أبعد من ذلك ويقول نحن لدينا شيء من الفدرالية.
زيادة الإنفاق المحلي لا تعني بالضرورة حدوث فساد. ففي لبنان حالياً، نحو 1059 بلدية، ويجب تقليصها إلى 250 بلدية. البلديات الصغيرة تمثّل 84% من مجمل عدد البلديات التي لا تملك القدرة على تعيين شرطيّ أو جابٍ، وذلك قبل الأزمة. هناك صناديق مركزية تعدّ مصدراً رئيسياً للفساد لأنها ليست منتخبة. فإذا توجّهنا نحو تشكيل مجالس محليّة منتخبة مزوّدة برقابة شعبية من الهيئة الرقابية المحلية التي انتخبتها، بالإضافة إلى الرقابة القضائية والضوابط المحدّدة في القانون لعمل المجلس القضائي واتخاذ القرارات وإمكانية الطعن فيها، أعتقد أن تحدّياً كهذا ليس سهلاً، لكنه واجب ديموقراطي.
في المقابل، أخشى أن يسبّب أيّ تعديل في المشروع داخل مجلس النواب إلى تحويله إلى مسخ، مع أننا عملنا في نصّ مشروع القانون على وجود توازن بين ضرورة المشاركة المحليّة ديموقراطياً وضرورة ضبط الإنفاق والصلاحيات. مشروع اللامركزية لا يحاكي هواجس اللبنانيين كلها، لكنه جزء أساسي، وأنا أرى هذا القانون كأنه ميثاقي وليس تقنياً يعزّز وحدة الدولة. اللامركزية جزء من الحلّ، ولكن ليس كلّ الحلّ.



31 قضاء
هو عدد الأقضية في لبنان، وتتضمّن 1431 قرية ومدينة، مسجّلاً فيها نحو 5.5 ملايين شخص، علماً أن نحو 84% من قرى ومدن لبنان، أو ما يعادل 1203 بين قرية ومدينة، يسكن فيها أقلّ من 5 آلاف شخص. هذه الأرقام وردت في التقرير الذي أعدّته اللجنة التي كلّفها رئيس مجلس الوزراء في تشرين الثاني 2012 لإعداد مشروع قانون لتطبيق اللامركزية الإدارية برئاسة وزير الداخلية والبلديات السابق زياد بارود. وقد اعتمد المشروع على القضاء كوحدة لامركزية تنشأ فيها مجالس منتخَبة (مع الإبقاء على البلديات بصلاحياتها ووارداتها)، وحدّدت معايير التمثيل في مجالس الأقضية، وذلك بالاستناد إلى إحصاءات المديرية العامة للأحوال الشخصية لعام 2013


مقاربة متكاملة
منذ عام 1989 حتى اليوم، طُرحت مشاريع واقتراحات قوانين عدة كانت أقرب إلى اللاحصرية، كأن تعيّن سلطة مركزية موظفين لها في المناطق، فيما يقدّم آخرون أمثلة عن الحصول على أوراق السجل العدلي أو إخراج القيد قرب مكان السكن. هذه ليست لامركزية، بل لاحصرية. وفي دول العالم، صار يُطلق عليها اسم الحكومات الإلكترونية. إذاً، ماذا تقدّم اللامركزية؟ المعيار الأساسي هو وجود سلطة محلية منتخبة تتمتع باستقلال مالي وإداري. ناقش الفكرة رئيس الجمهورية إميل إدّه في 1932 من دون أن يقدّم مشروعاً محدداً، إلى أن انضمّت في الستينيات الحركة الوطنية وكمال جنبلاط إلى هذا النقاش، إنما لم يقدّم مشروعاً متكاملاً. وفي 1991، قدمت القوات اللبنانية مشروع قانون بواسطة وزيرها روجيه ديب في حكومة عمر كرامي، لم يحظ بموافقة مجلس الوزراء. وفي 1995 قدّم النائب الراحل أوغست باخوس مشروع قانون يدمج العديد من القضايا، وبينها أن يكون نواب المنطقة أعضاء في مجلس القضاء، لكن خلق الأمر سجالاً حول فصل السلطات وكان أقرب إلى اللاحصرية. وفي 1999، قدّمت حكومة الرئيس الحص مشروع قانون متكاملاً، يشمل قانون البلديات والتنظيم الإداري واللامركزية الموسّعة، ولكن كان هناك خلط بين اللاحصرية واللامركزية، وخاصة في تشكيل مجلس المنطقة كما كان يُعرف. وفي 2006 قدّم النائب الراحل روبير غانم مشروع قانون لم يحظ بأي موافقة.