ما هي الاعتبارات التي تنشأ من المنطق العملي - الإجرائي، بدلاً من الإيديولوجي والتي تثار من خلالها الفدرالية واللامركزية؟ هناك اعتباران أساسيان؛ الجانب الوظيفي والقائم على الآتي: إذا كان المواطنون الذين يدفعون الضرائب موجودين ضمن نطاق صغير، فسيصبحون على دراية بالضرائب التي يدفعونها والخدمات التي يتلقّونها. أما إذا كان النطاق أكبر، فلن يتمكنوا من إقامة هذا الرابط. والاعتبار الثاني يتعلق بوجود كيان سياسي لديه موروثات تؤثّر في السلوك السياسي للمواطنين بالنسبة إلى الديانات واللغات وأنظمة التراتبية الاجتماعية والملكية وغيرها. إذاً، الخيارات المطروحة هي على النحو الآتي: السير في اتجاه محو هذه الفروقات (المتصلة باللغة والديانة والملكية...)، أو إخفاء الفروقات من خلال المركز والأطراف وإقامة تسوية بينهما قد تؤدي إلى الكونفدرالية.

لذا، فلنرَ أين نحن في لبنان من هذه الاعتبارات وفق الآتي:
- بالنسبة إلى الأول، هناك عطب جوهري بسبب عدم وجود مفهوم «الإقامة». فالمسألة المحورية هي أن من يدفع الضرائب، يجب أن يتلقّى الخدمات. لكن بما أن منطق «الإقامة» لدينا ملغى، يسقط هذا الاعتبار مباشرة. كأن تكون لدينا بلدية ناخبوها ليسوا أنفسهم المقيمين فيها. فالناخبون (أي من لديهم صفة سياسية) في المناطق التي تحوّلت إلى مدن وإلى ضواحٍ، لا يمثّلون أكثر من 5% أو 10% من المقيمين. والعكس تماماً في المناطق الريفية التي شهدت نزوحاً، إذ لا يتجاوز المقيمون فيها 10% من الذين يشاركون في التصويت. أضف إلى ذلك، أن النزوح والهجرة السورييْن عقّدا الأمور أكثر. لذا، نحتاج إلى تعداد وتحديد الإقامة الفعلية وغيرها لإيجاد سند لهذا الاعتبار، لكنّ التعداد يُواجَه بممانعة شديدة، لأنه يعرقل أسس التنظيم السياسي المستند إلى الطوائف والتعايش والمعتمد على فكرة أن هذه المنطقة تعود لهذه العائلة وليس غيرها.
- الشيء الثاني الذي يقوّض هذا الطرح هو صغر حجم البلد. فالتقسيمات التي يمكن أن تحتوي على تشابه نسبي بين الإيرادات والنفقات، تصبح بلا معنى عند قياس البلديات والقضاء وما شابهها، ولا سيما أن الإيرادات الموجودة، قبل انهيار الدولة، كانت تأتي من الضرائب على الاستهلاك والضرائب على الأجور والأرباح. فعلى سبيل المثال، تدفع المصارف الضرائب في المنطقة التي تتواجد فيها، أي بشكل رئيسي في وسط بيروت حيث معظم مراكزها الرئيسية. وكذلك، ترتكز ضرائب الاستهلاك بحسب نمط حياة المواطنين، وهي تتركّز بشكل كبير في مداخل المدن وبالتحديد مداخل بيروت (المولات والسوبرماركت مثلاً). لذا، فإن السعي لإقامة «لامركزية» تحقّق توازناً وقرباً بين الإيرادات والنفقات، يجب أن يأخذ في الاعتبار مفهوم «الإقامة» أولاً، والمعيار الذي تتقارب عنده الإيرادات والنفقات ثانياً.
- ثمّة أمر أساسي، وهو أننا واقعياً، عبارة عن كونفدرالية. لدينا مكوّنات مختلفة ووحدة وطنية، ما يعني أننا نسعى لتمثيل الجميع، ونملك حقوقاً مقدّسة ومترتّبة على مسؤوليات معينة، ويتم احترامها من جميع الأطراف. والدليل على ذلك تشكيل الحكومات، انتخاب الرئيس والنواب، وإدارة العديد من المؤسسات الأخرى. إذاً نحن نملك كونفدرالية سياسية، ومتمّمتها أنظمة الأحوال الشخصية والمقامات الدينية وغيرها.
في ضوء هذا النقاش، يظهر سؤال أساسي: ما سبب إحياء طرح كهذا اليوم، بينما لا مقوّمات موضوعية له خلافاً للمقوّمات المؤسّسية القائمة والمنفّذة والمطبّقة على أرض الواقع؟ لا يمكن أن تكون هناك كونفدرالية أكبر من الموجودة في لبنان، بدليل أنهم يتحدثون عن طاولة حوار وإجماع وطني. هذا بحدّ ذاته هو الكونفدرالية التي يطمحون لها جميعاً من دون استثناء. لكن ما عزّز هذه الطروحات المتعلقة بالفدرالية واللامركزية وسواهما، هو الإفلاس المالي والتكيّف اللذان قِيد إليهما المجتمع وبغالبيته ارتضى به. فالآن نحن نعيش على استجلاب المساعدات، وفي الخارج جهوزية لتقديمها للمجتمع الأهلي وليس للدولة باعتبار أنها «فاسدة». لكن من هو هذا المجتمع الأهلي؟ هم الأحزاب والجمعيات، وجميعها بحكم التركيبة السياسية، هي عبارة عن تركيبات طائفية. فلنأخذ مثلاً، الحديث عن اتفاق بين إيران والسعودية، إذ سرعان ما يتحوّل هذا الاتفاق في لبنان إلى سردية عن وصول الأموال والمساعدات (ما يمكن تسميته التمويل الجديد). لكن بمعزل عن الجهة المرسلة والجهة المرسلة إليه، فإن دخول الأموال إلى تشكيل سياسي طائفي يعني أنها ستُوزّع مباشرة (نقداً) أو على شكل خدمات (أقساط مدرسية، كلفة استشفاء، توفير محروقات...) على المجموعات القريبة أو المحسوبة أو الداعمة لهذا الحزب أو الجمعية، أي أنها ستُوزّع وفق التركيبة. لذا، فإن المسألة لم تعد متعلقة بتوازن بين الضريبة والخدمة، ولا بتنظيم كونفدرالية قائمة، بل متّصلة بمأسسة المعسكرات أو المخيمات التي يتولاها كل تشكيل طائفي ويستجلب لها مساعدات من حيث استطاع (أميركا، إيران، السعودية...) ويضخّها عبر قنوات يديرها (مدرسة، مستشفى، محطّة محروقات، بطاقات، إعاشات...). عملياً، هناك مخيمات في لبنان مماثلة، رغم أنها أكبر حجماً ومختلفة بنيوياً، للمخيمات السورية، إلا أن الكل يحصل على تمويل على شكل بطاقات ومساعدات بحصص مختلفة ووفق اعتبارات أخرى أيضاً. لا يجب أن نغفل أن مساعدات الأمم المتحدة ليست مختلفة عن تلك التي تأتي من الخارج إلى جمعيات وأحزاب في لبنان.
هنا يتقاطع ما هو مطروح اليوم، مع مسألة الإفلاس والترويض. فالنظام القائم، كان ممتازاً، إلى أن تعطّل بسبب تدخلات الخارج. البعض يلوم إيران ويعزو الفشل إلى تدخلها، فيما هناك آخرون يلومون الولايات المتحدة والحصار. لكنّ الطرفين، ابتدعا حلاً: من يستطعْ تأمين مساعدات من إيران فَلْيُدِرْ مخيماته ومعسكراته بهذه الأموال، ومن يستطعْ تأمينها من أميركا وفرنسا، فليدِرْ معسكراته ومخيماته. وقائمة الدول تشمل السعودية وسائر دول أوروبا وغيرها. في الاستنتاج، يظهر بوضوح أن الطروحات مبنية على: أولاً، «الترويض الاجتماعي» الذي يتمثّل في استغلال الأموال لإدارة المخيمات والمعسكرات وإلغاء دور الدولة بشكل كامل بعد إفلاسها، وهذا يعني تصفية وإلغاء الخدمات والتعليم والإدارة. وثانياً، «التذاكي والتحايل»، بغرض استجلاب الأموال والمساعدات لكل فريق على حدة من الدول التي لا يستطيعون الوصول إليها، إذ إن إيران قد تكون سبباً للأزمة أو الولايات المتحدة والحصار. هذه هي الصيغة التي تعني التخلص تماماً من موروثات الدولة المتبقية وتأسيس مجتمع مختلف عن أي شيء يتصوّره الناس اليوم، أي مخيمات ومعسكرات.
ما أحاول قوله هو أن هذه الطروحات تعكس واقعاً يُطبّق الآن ولو بدرجات متفاوتة. مثلاً، في مجال الكهرباء، ثمة من يقول نحن ندفع ولا نحصل على الخدمة، لكن عملياً لدينا أمثلة كثيرة عما يُطبّق مثل تسهيل تجهيزات الطاقة الشمسية، أو ما تقوم به بعض البلديات والمجموعات لجهة تنظيم إنتاج الكهرباء وتسعيرها وبيعها، مثل كهرباء زحلة وغيرها. إذاً، هذا ليس مجرد مشروع يُطرح، بل واقع قائم ويُنفّذ ويتمدّد، وهذا هو ما يعيشه الناس. حزب الله يتقدّم في هذا المجال بفضل قدرته التنظيمية والدعم الذي يحصل عليه من إيران، ويقدّم خدمات مهمّة جداً لمن يعتبرهم أتباعه. والجيش اللبناني يعتمد بشكل كبير على المساعدات العينية والنقدية كما أكدت باربرا ليف في إحدى الندوات. والمدارس الكاثوليكية والجامعة الأميركية وغيرها تحصل أيضاً على مساعدات. هذه الوقائع ليست منفصلة عما هو مطروح، بل تأتي هذه الطروحات لتواكبها.
قد يشير أحدهم إلى أن المساعدات لا تصل إلى الجميع، وهذا صحيح لأن بعض المخيمات والمعسكرات قد يكون لديها مستوى أعلى من التنظيم والتوزيع من غيرها. لكنّ المقارنة يجب أن تكون بين الوضعيْن الحالي والسابق، إذ كانت أدوات التوزيع تعتمد بشكل أساسي على المصارف والدولة قبل الانهيار المالي. والمصارف، على علاتها، كانت تعمل بشكل غير طائفي وكان توزيع الموارد في الدولة متاحاً للجميع. أما اليوم، فلم يعد هناك وجود للمصارف، والدولة تقوم فقط بتقديم بعض جوائز الترضية للموظفين مثل «غالون البنزين»، أي أن أدوات التوزيع المركزية تعطّلت بشكل كامل بينما مفهوم التوزيع ما زال قائماً. التعطّل لا يُنسَب إلى التركيبة التي ورثناها من الحرب الأهلية، بل إلى عوامل خارجية، لذا فإن الأمر ليس إلا تطوّراً متقدّماً عن الطرح الحاصل أصلاً، فيتم طرحه في حالات الضيق والعوز والقلق، ولا أحد يلجأ إليه في فترات الاطمئنان.


مرحلة انتقالية بائسة
هذا البلد ورث نمطاً من الثمانينيات يعتمد على تجاهل وظائف تؤدّيها وأُنشئت من أجلها الدولة. وفي عام 2019 تعثّر هذا النمط وصرنا في مرحلة انتقالية انتهى فيها ما كان قائماً. هناك واقع جديد لا يعرف الناس عنه الكثير. ويتجلّى الانتقال في وقائع يومية على شكل هجرة ومساعدات وخدمات، لكنّ صورته البسيطة تكمن في إنشاء معسكرات ومخيمات. فلنلقِ نظرة على فلسطين، حيث يوجد نظام الحكم الذاتي الذي يتكوّن ببساطة من مجموعة مخيمات تتلقى مساعدات من الخارج، ويعيش معظم السكان هناك من خلال توزيع هذه المساعدات عبر الخدمات والتنظيفات وما إلى ذلك، وبالطبع ضمنها توجد مناطق أشد فقراً من غيرها مثل غزّة. لذا، ومن دون مبالغة، نحن نتّجه نحو هذا النمط. نحن في «مواطنون ومواطنات في دولة»، نقول التالي: لسنا مجبرين على الواقع الحالي الذي وُلد في الثمانينيات والذي أحدث الكثير من الكوارث. اليوم نحن بحاجة ملحّة إلى دولة لا تكون كالدولة الكونفدرالية المعطّلة، والعاجزة عن اتّخاذ أي قرار سلبي أو إيجابي. هذه الحاجة الملحّة تسمح لهذا المجتمع أن ينهي لعنة العقود الماضية التي وقع فيها. يجب أن يتعامل المجتمع مع واقعه بشكل شامل، بدءاً من التعداد والإقامة، وفي التعامل مع الجهات الخارجية، إذ ينبغي أن تذهب المساعدات إلى الدولة التي بدورها تدير عملية توزيع المكاسب والخسائر. وبدلاً من تفكّك المجتمع من أجل الحفاظ على النظام، يجب أن يحدث العكس. اللافت أن الأمور بالعكس، فبدلاً من ذلك، يتكيّف المجتمع ويرتضي بالأزمة ويدفع ثمن اليأس والخوف من عودة الحرب. وهذا يجعله يعيش كل يوم بيومه ويحاول تأمين الدواء وإرسال الأولاد إلى المدارس وتأمين جوازات السفر للهجرة. وهذا السلوك هو نفسه الذي كان موجوداً في الثمانينيات.


النبع المركزي وتفريعاته
مشروع القانون الذي أعدّته لجنة برئاسة زياد بارود، طُرح قبل سنوات من أزمة 2019، أي عندما كان المزراب الأساسي يتمثّل في المصارف، وثبات الدولار سارياً. بالتالي، سقط ما كان يُروّج سابقاً عن حصص جهة ما من المزراب في مقابل رغبتها في الجباية المحلية. فالجباية تكاد اليوم تكون صفراً، وأصبح صعباً أن نحصل على قروض لتنفيذ مشاريع بسبب نقص النقد وعدم توفر التمويل. لذا، يجب أن ندرك أن طروحات من نوع الفدرالية واللامركزية، لا تنفصل عن سقوط الوضع السابق القائم على وجود سلطة مركزية تثبت سعر الصرف وتدير صندوقاً بلدياً، وضماناً اجتماعياً، وديناً عاماً، وفيها مصارف... النبع المركزي وتفريعاته طارت وتبخّرت. اليوم نحن متجهون نحو شيء مختلف، حيث كل جهة تغرف من حيثما استطاعت لتضخّ الأموال عند جماعتها.


الكونفدرالية تقوم على أساس أن كل كيان يتمتع بنوع من الشرعية الذاتية ويرتضي أن يتآلف مع الآخرين، يعني ذلك أن يتنازل عن جزء من سيادته لوضعه في سلّة مشتركة وتكون الدولة كونفدرالية. في الواقع، لا يوجد اليوم سوى كونفدرالية واحدة معلنة وهي الاتحاد الأوروبي.