ليس هناك توازن بين مفهوم التوزيع وإعادة التوزيع
من الناحية السياسية، الطرح الفدرالي مرفوض ولم يُطرح رسمياً. واتفاق الطائف هو المرجعية الرسمية التي تتحدث عن اللامركزية الإدارية الموسّعة، وعن اللامركزية برؤية مركزية بدلاً من رؤية اتحادية أو فدرالية. بمعنى أوضح، تعتمد اللامركزية على وجود مركز قويّ يملأ الثغرات التي لا يصل إليها المركز، أي أنّ الهدف النهائي تقوية المركز وليس إضعافه. كما أن توسّع الرؤية اللامركزية إلى حدّ القضم من قوّة المركز، لا تقدّم حلولاً بل تسبب المشكلات. فاللامركزية ليست لحلّ المشكلات ذات الطابع المركزي، أو للردّ على الأسئلة التي يتوجب على الحكم المركزي الإجابة عنها. لذا، من يطرح اللامركزية الإداريّة الموسّعة على حساب السلطة المركزية، يزيد أزمة المركز، لأن المشكلات التي نواجهها اليوم هي أزمات مركزيّة في مجالات متعدّدة مثل الطاقة والنقل الداخلي والخارجي، والأزمة المالية والقطاع المصرفي وسعر الصرف. جميع هذه المشكلات لها طابع مركزي، واللامركزية لا تقدم حلولاً على هذا الصعيد. ومع ذلك، فإنها قد تلبي احتياجات السكان على المستوى المحلّي بشكل مؤقت وانتقالي في حال كان المركز يعاني من مشكلات، وذلك في انتظار الحلّ المركزي.

الفدرالية طبيعتها سياسية، بينما اللامركزية تتعلق بالتنمية والاقتصاد والاجتماع. لذا، الفدرالية لا تحلّ المشكلات والأزمات التي يواجهها لبنان، ولا تحسم الخلافات في المسائل الأساسية مثل السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية والسياسات الاقتصادية والمالية التي هي بطابعها مركزية. واللامركزية تعمل على توزيع، وإعادة توزيع الموارد بناءً على الإنتاج أو العملية الإنتاجية نفسها لتحظى المناطق التي لديها ناتج معين في بعض مصادر الدخل، بنسب محدّدة من هذا الناتج. علماً أن هذا الأمر موجود حالياً، إذ تفرض البلديات ضرائب ورسوماً محلية وتحصّلها بشكل مباشر أو غير مباشر. أما بالنسبة إلى إعادة التوزيع، فإن إحدى مهام اللامركزية، تكمن في تقليل الفجوات بين الأقضية للمساعدة على حلّ مشكلات المركز.
يتطرّق الوزير السابق زياد بارود في مشروعه إلى مسألتَي التوزيع وإعادة التوزيع، لكن نلاحظ عدم التوازن بينهما. يقترح أن يُقدّم القضاء مساهمة مباشرة لصندوقه من خلال فرض الضرائب والرسوم والريع العقاري، وهذا يُعدّ جانباً من جوانب التوزيع. وبدلاً من دوره في تصحيح الفجوات، يحاول الصندوق اللامركزي أن يخصّص لكل منطقة وفقاً لمعايير معينة تحدّد حصّتها من الناتج والدخل الكلي، ولكن ذلك لا يحلّ مشكلة التفاوت. لكن من ناحية اللامركزية، هناك مجموعة من المعايير المتعلّقة بإعادة التوزيع والصندوق اللامركزي. فإذا أردنا تصميم مشروع لا مركزي فعّال، يجب أن نأخذ في الحسبان عنصرَي التوزيع وإعادة التوزيع معاً:
- التوزيع: يعني أن تحصل كل منطقة على نصيب من بعض مصادر الدخل وليس كلها، وبالتحديد حيث توجد مصادر دخل مركزية بطبيعتها مثل الثروات الطبيعية، والنفط والغاز. هناك أيضاً منشآت مركزية في منطقة معينة مثل المطار في الشويفات وحيّ السلم، وهي تولّد إيرادات للبلدية لكنها مركزيّة ولا تخوّل حقوقاً إضافية للمنطقة.
خطوط بحثية متداخلة، فيما تقدم تحفيزات نحو وعي بيئي، كما في «النار الأخيرة


- إعادة التوزيع: وهي الأهم لأنها تعني إعادة توزيع عائدات الأقضية بما يتناسب مع المداخيل التي تحقّقها الأقضية وفقاً لمعايير محددة. وهنا السؤال الرئيسي يصبح على الشكل الآتي: هل هذه العملية مبنية على ما يُعرف بـ«سلسلة القيم» التي تكوّن الدخل على أساسها في منطقة محدّدة؟ فلنأخذ الوكالة الحصرية المسجّلة في منطقة ما مثلاً. فليس من المنطق أن يسُجّل الدخل وتحصيل الضرائب في هذه المنطقة، لأن هذا الدخل والقيمة المضافة للسلع المتبادلة تحت هذه الوكالة لم تكن لتتحقق لولا «سلسلة القيم» التي تكوّنت في الأسواق المحلية. وسلسلة القيم بمعنى، قوّة العمل، والمبيعات، ومصادر الموارد من طاقة ومياه وسواها. فبموجب المعايير المطروحة، ستحصل المنطقة التي يتم فيها تمركز الشركة أو المعمل على حصّة أكبر من الدخل، رغم أن الدخل تكوّن عبر سلسلة قيم شملت مناطق عدّة. ولنفترض أيضاً أن هناك شركة للطاقة الشمسية مقرّها الرئيسي في بيروت ولديها مشاريع في جميع المناطق، أي أن دخلها مسجّل في بيروت بينما ستكون سلسلة القيم قد مرّت في جميع المناطق.
ثمة مثال أكثر وضوحاً على ذلك، إذ يوجد نحو ألف فرع مصرفي في لبنان تجمع الودائع من مناطق مختلفة وتحوّلها إلى المركز حيث يتم تسجيل الأرباح. ويضاف إلى ذلك وجود فجوة وعدم توازن بين المركز والفروع، حيث يسجّل المركز قروضاً مصرفية بمبالغ أكبر بكثير من الفروع، بينما تستقطب الفروع ودائع بمبالغ أكبر من المركز. ومع ذلك، فإن الدخل النهائي والقيمة المضافة والعائد يتم تحقيقها في المركز.
ثمة مسألة أساسية عندما نتحدث عن المركزية واللامركزية، إذ لا نقصد بذلك الخدمات والإعانات، بل الاقتصاد والتنمية. لكن حالياً، تركّز جميع المؤسسات ذات الطابع اللامركزي على تقديم الخدمات المباشرة من دون أن تساهم في الاقتصاد والتنمية. يعتمد هذان المفهومان على التكامل بين جميع المرافق والمؤسسات ومصادر الموارد والدخل، ويجب أن يعملوا معاً على المستويَين المحلي والوطني.
ما أخشاه في فكرة اللامركزية هو التالي: بحسب بعض المعتقدات المتداولة فإن اللامركزية قد تسهم في حلّ مشكلة الخدمات من خلال الحصول على تمويل أو تعبئة موارد محلية. هذا الأمر يصرفنا عن المشكلات الأخرى، بناء الاقتصاد المتكامل ويساعد النظام القائم على تمديد صلاحيته، لأن طرحاً كهذا يخفف عنه عبء الخدمات. فإذا استطاعوا حلّ مشكلة الكهرباء بكلفة عالية نسبياً في قضاء من الأقضية، كما سبق وحصل، وبات لدى بعض المواطنين كهرباء 24 ساعة، فهذا سيخفف الضغط عن صانع القرار من أجل إيجاد حلول للمشكلات المركزية المستعصية. وهذا ما أخشاه، لأنه من دون مواجهة هذه المشكلات لن نستطيع استنهاض البلد ولا بناء اقتصاد متكامل ولا تنمية.
النطاقات اللامركزية إذا صُمّمت على رؤية لامركزية، يمكنها أن تستجلب تمويلاً. ما أخشاه أيضاً في الجانب السياسي، أن نتوجه من خلال تطبيق ما لـ «اللامركزية»، أن نزيد من جدوى النظام الطائفي. مع الأزمة فقد جزء من جدواه بسبب ضعف قدرته على التوزيع. ولكن هذه الرؤية اللامركزية التي تسيطر على البعض، تقول إنه يمكننا أن نرفع من جدوى النظام الطائفي بنسخته الرديئة الحالية وأن نمنحه قيمة إضافية، وأن نستبدل المحاصصة المركزية بالمحاصصة اللامركزية.




المصدر: تقرير لجنة إعداد مشروع قانون لتطبيق اللامركزية الإدارية

في أحدث مشروع لتطبيق اللامركزية الإدارية اقتُرح زيادة نسبة الإنفاق المحلّي (البلديات والأقضية) من إجمالي إنفاق الحكومة المركزي من 5% إلى 25% كحد أدنى لتصبح موازية تقريباً للمعدل الوسطي حول العالم والبالغ 27%. وبحسب الأرقام المالية لعام 2014، فإذا رفعت نسبة إنفاق مجالس الأقضية من الإنفاق المركزي إلى 20%، يعني زيادة مبلغ الإنفاق إلى 1.5 مليار دولار، على أن يتم تأمين 40% من هذا المبلغ من الصندوق اللامركزي، و60% من الضرائب المباشرة وغير المباشرة والرسوم.