تعتمد قبائل السكان الأصليين في شمال غربي أميركا الشمالية صيغة تبادل مثيرة للإعجاب. يُطلق عليها اسم «البوتلاتش – Potlatch». «البوتلاتش» عبارة عن احتفال عام تلتقي فيه مجموعة من القبائل من أجل إتلاف أشياء أو ممتلكات خاصة ثمينة، أو بغية تقديمها كعطايا وهدايا للقبائل الأخرى، والتي بدورها تكون مجبرة على رد هذه الهدايا. تتكوّن هذه العملية من ثلاثة واجبات رئيسية: أولاً، واجب العطاء؛ أي أن القبيلة الأولى مجبرة على إعطاء الهدايا. ثانياً، واجب القبول. ثالثاً، واجب الردّ؛ بمعنى أن القبيلة الثانية مجبرة على قبول الهدية وردّها للقبيلة الأولى. وكلما طالت مهلة ردّ الهبة ترتفع قيمتها. تكمن الغاية من هذه العملية التبادلية في إعلاء المكانة الاجتماعية للقبائل التي تقدّم الهبات، وبناء علاقات اجتماعية في ما بينها.مفهوم الملكية في احتفالية «البوتلاتش» يختلف عن التصوّر الرأسمالي للملكية. ففي سياق الطقس الاحتفالي، يقوم الفرد بتدمير ممتلكاته أو وهبها وإهدائها للآخرين، والمقابل هو بناء علاقات إنسانية وحيازة مكانة اجتماعية؛ أي أن ما هو اجتماعي - إنساني يتخطّى في أهميته ما هو مادّي.
تكمن أهمية دراسة «المجتمعات الغابرة - Archaich Societies» أنها تعطينا مؤشراً عن حقيقة الحياة الاجتماعية بمعزل عن متغيّرات الثقافة. بهذا تصبح هذه المجتمعات مرآة لمجتمعاتنا نحن. يؤكّد كلود ليفي ستراوس، أن مثل هذه الشعوب التي تصفها المركزية الأوروبية بالبدائية، تملك نظماً قرابية، ومؤسّسات اجتماعية شديدة التطور والتعقيد، وإزاءها تصبح تنظيمات المجتمعات الغربية بسيطة للغاية.
نعيش اليوم ضمن سياقات معرفية تُصدر قوالب فكرية جاهزة لا نقاش فيها. أصبح فهمنا لمسائل كالتبادلية، المنفعة، الملكية، العرض والطلب، الأسعار، الفرد والمجتمع، الحاجة والمصلحة نتاج هذه القوالب/ المسلمات. فبحسب الاقتصادي الكلاسيكي آدم سميث، يحكُم فكرة تبادل السلع بين الناس ميلهم «الطبيعي» إلى تعظيم أرباحهم ومصالحهم الخاصة، في ما يُعرف بالأدبيات الرأسمالية بالـ«الإنسان الاقتصادي - Homo Economicus». وبحسب الليبرالية الاقتصادية، فإن الأفراد بأهدافهم الجزئية، هم مبدأ التفسير الاجتماعي، وليس المجتمع كمقولة مستقلّة. (ما مدى واقعية هذا الأمر وصحته؟ ظاهرة «البوتلاتش» بوصفها صيغة تبادل هي «ظاهرة اجتماعية كليَة» يسعى من خلالها الأفراد - بوصفهم جزءاً من اجتماع أهلي - إلى إقامة علاقات اجتماعية بعيداً من أي أهداف فردية أو ربحية).
يرتكز المنطلق الفلسفي لليبرالية الاقتصادية على ثنائية محورية: أولاً، «الكينونة الفردية -Individualism». تعبّر الكينونة الفردية عن فكرة «الأنانية الإنسانية» باعتبارها القانون الحاكم لطبيعة وسلوك الفرد. الأنانية «الطبيعية» هذه، تتمثّل بالمصلحة الفردية والملكية الخاصة حصراً. ثانياً، الكينونة المحيطية التي تُمثل «النظام الذاتي - Spontaneous order» للأسواق الحرة التنافسية. لذا، فإن اجتماع الفرد بأنانيته الطبيعية والسوق بآلياته المثالية يحقّقان المعجزة الرأسمالية.
■ ■ ■

إعادة تعريف الخطر
يعتمد الاقتصاديون الكلاسيكيون في منظورهم هذا على المواءمة بين الطبيعة والاقتصاد والمجتمع. أي أنه كما تتحكم قوانين خالدة في الطبيعة، فإن النظام الاقتصادي بدوره يخضع لنفس هذه القوانين. وبذلك هم أضفوا صفة الموضوعية على القوانين الاقتصادية، ليصبح قانون العرض والطلب «مُعطى طبيعي» لتحديد أسعار السلع في الأسواق. (هل آليات العرض والطلب وحدها الكفيلة بتحديد أسعار السلع في الأسواق؟)
ترفض الكاتبة الأميركية - الإسكُتلندية جاين غاير هذه السردية، محاججة بأن السعر هو نتاج عملية مركبة من مجموعة عناصر تتخطّى العرض والطلب. وفي دراسة تطرّقت فيها إلى أسواق النفط في الولايات المتحدة الأميركية، تبيّن الكاتبة أن سعر «غالون البنزين» ارتفع من دولارين إلى ثلاثة دولارات عام 2006، في ظل غياب أي تحوّلات اقتصادية أو تقلّبات في الأسواق تبرر هذه الزيادة. تستنتج غاير أن «الأدوات المالية» و«العقود الآجلة» تلعب دوراً رئيسياً في تحديد الأسعار. تميل أسعار النفط للارتفاع مستقبلاً، قياساً بأسعارها الحالية، لذا تشتري شركات النفط عقوداً آجلة للتأكد من حصولها على النفط في المستقبل. كما أن العديد من المستثمرين يشترون هذه العقود باعتبار أن النفط استثمار مربح. تؤكّد غاير أن الاستثمار في العقود الآجلة أدّى إلى ارتفاع سعر «غالون البنزين». كما أفضى هذا الارتفاع مقروناً بارتفاع طلب المستهلكين إلى نموّ الاستثمار في أسواق النفط.
في حالة كهذه نحن لا نشتري فعلياً عقوداً آجلة أو أدوات مالية، بل نشتري «المخاطرة – Risk». يُعرّف الخطر بأنه الترتيبات التجارية الصارمة طويلة الأجل، أو على نطاق واسع، «حالة بشرية تجمع بين الكثير من التعرض والكثير من الالتزام». أمّا في الأدبيات المالية (على النقيض من التعريف السابق)، «تُعتبر أدوات المخاطرة مصادر لأرباح جديدة». هذا يتضمن تحولاً في كيفية فهمنا للمخاطرة، من احتمال الخسارة إلى فرصة للربح. لا بل يتعداها إلى اعتبار «الخطر» سلعة تباع وتشترى في السوق، ولو كانت «زائفة».
لم يكن هذا النظام قائماً في المجتمعات البشرية عبر التاريخ. ففي معرض نقده لصعود الرأسمالية، يشير المؤرخ الاقتصادي كارل بولانيي، إلى كون آلية العرض والطلب في تحديد الأسعار، هي وليدة النظام الرأسمالي. يضيف بولانيي، أنه من أجل إيجاد سوق حرّة كاملة، وجب على الاقتصاديين الرأسماليين تحويل البشر وبيئتهم الطبيعية إلى «سلع». وعليه، فإن مفاهيم كالعمل والأرض والمال ينبغي تحويلها إلى سلع من أجل تحقيق هذا الشكل من الأسواق. تُعرّف السلع أنها الشيء المُنتج بغية بيعه في السوق، لذا، فإن العمل والأرض والمال «سلع زائفة». أي أن أياً منهم لم يُنتج من أجل البيع في الأسواق. فالعمل هو نشاط إنساني، والأرض وليدة الطبيعة (أو الطبيعة مقسّمة)، والمال مجرّد أداة تبادل. وما عملية تسليع هذه «المفاهيم» إلا لتطويق وإلحاق المجتمع الإنساني بدوائر السوق.
والحال أن عملية التسليع هذه لا زالت مستمرة حتى يومنا هذا، وهي لا تقتصر على مفهوم المخاطرة، بل تتعداها إلى مفاهيم كالمعرفة والصحة والعلاقات الاجتماعية التي يجري تسليعها بانتظام.
لقد أصبحت الأدوات المالية الجديدة القائمة على حسابات المخاطر إحدى أبرز شروط تكامل السوق العالمية، وقد دفعنا قياس المخاطر إلى حقبة جديدة من تنظيم الأسواق وممارسة الأعمال والتنظير للمجتمع.
■ ■ ■

في الحاجة إلى الأنثروبولوجيا: حلقة الكولا
يدفعنا هذا الواقع المعرفي نحو إعادة قراءة التراث الأنثروبولوجي - السوسيولوجي. إذ يقدّم هذا التراث، منذ بدايات القرن العشرين، نقداً محورياً لليبرالية الاقتصادية ونزعتها لتقديس النفعية والفردية.
لقد اهتم العديد من أنثروبولوجيّي القرن العشرين بالدور الجوهري الذي تلعبه عمليات «التبادل» في الحياة الاجتماعية. «برونيسلاف مالينوفسكي» - أحد أبرز الأنثروبولوجيين - أمضى سنوات عدّة مع شعوب «جزيرة تروبرياند» (وهي أرخبيل من الجزر الميلانيزية في غرب المحيط الهادئ)، واستنتج أن العلاقات التبادلية تمثّل أساس العلاقات الاجتماعية في هذه الجزر.
مجدداً، وعلى الضفة الأخرى من عالم «البوتلاتش»، كان ثمّة ظاهرة تبادل فريدة، نشأت بين ثنايا الجغرافيا الميلانيزية. فأبناء هذه الجزر لم يكونوا منعزلين عن محيطهم، بل كانوا يمارسون نشاطاً تجارياً مع أقوام يقيمون في جزر مجاورة لهم يشتركون معهم في إثنية واحدة. ورغم أن هذه العلاقة لم تخلُ من الخصومات والعداوات، إلا أن أساسها كان قائماً على ظاهرة تبادلية - اقتصادية تدعى «الكولا – Kula».
يشتمل نظام التبادل هذا على حركة تجارية دائرية تمتدّ من الجزر التروبرياندية مروراً بجزيرة آمفلت إلى جزيرة دوبو (طول الرحلة 120 ميلاً لكل اتجاه). يحدّد مالينوفسكي أن «حلقة الكولا - Kula Ring»، هي عبارة عن تبادل مجاني يخلو من أي عملية تجارية، أو ربحية، فالسلع يتم تداولها على شكل هدايا وهبات.
كما أن «الكولا» – كمثيلتها «البوتلاتش» - تقوم على تبادل نوعين من السلع: عقود من اللآلئ الحمراء يُطلقون عليها «سُلافا - Soulava»، وأساور من أصداف بيضاء يسمّونها «موالي - Mwali». ينتقل نوعي السلع هذه حول الجزيرة باتجاه معاكس، إذ تنتقل «سلافا» باتجاه عقارب الساعة حول الأرخبيل، بينما تجري «موالي» بالاتجاه المعاكس. يتم تبادل العقود والأساور بين طرفين محدّدين؛ فالشخص الواحد لا يتبادل إلا مع عدد محدود من الأشخاص. مثلاً، يعطي (أ) لـ (ب) «سلافا»، فيقوم (ب) بإعطائه «موالي»، أو العكس (الطرفان مجبران على رد الهدية). كما يتم تبادل العقود والأساور باستمرار. لا يُحتفظ بالهدية لوقت طويل، لأن أهميتها بحسب ثقافة هذه المجتمعات، تكمن بإعطائها لأشخاص آخرين من أجل تخليد العلاقة معهم، إذ إنه لكل فرد في تجارة الـ«كولا» شريك في الجزيرة الأخرى، و«التبادلية» علاقة اجتماعية وشخصية غير ربحية.
كارل بولانيي: من أجل إيجاد سوق حرّة كاملة وجب على الاقتصاديين الرأسماليين تحويل البشر وبيئتهم الطبيعية إلى «سلع»


تُبرز «حلقة الكولا» أهمية التعامل بالمثل في الحياة الاجتماعية. بحسب مالينوفسكي إن «الثروة التي تنتقل من يد إلى يد وفقاً لحركة ذهاب وإياب دائمة، تُشكل واحداً من الأركان الأساسية التي يقوم عليها التنظيم المجتمعي». وإذ تستغرق حلقة الكولا الواحدة دورة زمنية بين سنتين وعشر سنوات، تستمر عملية التبادل هذه مدى الحياة. المثير أن هذه الظاهرة تتم وفق تنظيم عالي الدقة والفعالية، ووفق طقوس ومراسم محدّدة ومتجذّرة في ثقافة وأساطير هذه الشعوب.
لقد أقام سكان هذه الجزر نظام تبادل تجاري قائم على أساس العطاء والسخاء بدلاً من الجشع، في ظل غياب أي شكل من أشكال النقود والأسواق. مثّلت دراسة مالينوفسكي تحدياً للنفعية الاقتصادية بإظهارها ميل سكان الجزر التروبرياندية إلى تحويل «البضائع» إلى «هدايا» أو «هبات». من شأن هذا الأمر أن يدحض فكرة «الإنسان الاقتصادي» بوصفه النموذج الإنساني الوحيد. كما من شأنها نقد الاعتقاد الليبرالي بتسيير المجتمع كتابع وملحق للسوق. وبدلاً من أن يكون الاقتصاد مطوِّقاً للعلاقات الاجتماعية، فإن العلاقات الاجتماعية هي التي تطوّق النظام الاقتصادي.

خطورة الليبرالية
يقول الأنتروبولوجي الفرنسي مارسيل موس: «إن تبادل الهدايا ليس تبادلاً مادياً فقط، بل تبادل معنوي وروحي وأخلاقي». مجتمعاتنا العربية ليست بعيدة عن مقولته. ففي شهر رمضان وقبل الإفطار، يُرسل الناس القاطنين في مبنى سكني واحد أطباقاً من الطعام والحلويات؛ تُرسل العائلة (أ) في اليوم الأول طبق طعام إلى العائلة (ب)، فتقوم العائلة (ب) بإرسال طبق من الحلويات للعائلة (أ) في اليوم التالي. وهكذا، تبقى هذه الأطباق هدايا مُتناقلة تحمل معها العديد من الدلالات. لا تبتغي عملية التبادل هذه أي ربح مادي بل هي نتاج طبيعي للعلاقات الاجتماعية بين الناس. إن العلاقات الاجتماعية هي التي تنتج الأفراد والمعنى، وما ميل الإنسان الطبيعي إلا لإقامة علاقات اجتماعية تتجاوز مسألة تعظيم «الربح». إن خطورة الاعتقاد الليبرالي أنها تجعل الإنسان «بوصفه كائناً اجتماعياً» تابعاً للسوق وآلياته، بينما حقيقة المجتمع الإنساني تقوم على العكس دائماً وأبداً.

*باحث دكتوراه انتروبولوجيا في جامعة غوتينغن - ألمانيا