«لا تُقاتل ما لم يكن موقِفُك حرِجاً.لا يجب على الحاكم إرسالَ قوّاتِه إلى الميدان استجابةً لثورة غضب.
لا يجب على القائد أن يخوض معركةً فقط بسبب جرحٍ طال كبرياءه.
إذا كان الهجوم في صالِحك، تحرّك إلى الأمام، وإلّا فالزم مكانك».

القائد العسكري الصيني، سَن تزو، مؤلّف كتاب «فن الحرب»، مرحلة الربيع والخريف في التاريخ الصيني، قبل الميلاد.



نفّذ الجيش الصيني عقب زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان، مناوراتٍ عسكرية أحاط بها الجزيرة من كلّ جوانبها في شكلٍ «يرقى إلى حصارٍ بحري وجوّي» عليها، وفق وزارة الدفاع التايوانية. ورغم أنه اكتفى بالتّحذير ولم يَحظُر، رسمياً، عبور سفن الشحن والطائرات المدنية والتجارية إليها أو مرورها فوقها أو عبورها المضيق، كان مجرد فرض «جيش التحرير الشعبي» الصيني منطقة عمليات عسكرية في محيطها كافياً لإلغاء رحلاتٍ جوية كانت متجهة إليها، وإجبار ناقلاتٍ وسفن شحنٍ على الإبحار بعيداً منها. عملياً، رسم الجيش الصيني بقطعه البحرية ومقاتلاته ومروحيّاته وصواريخه، صورةً مُصغّرةً لما قد يكون عليه المشهد، لو قرّرت بكين الارتقاء في ضغوطها على تايبيه، إلى حدّ فرضها حصاراً بحرياً وجوّياً على الجزيرة التي تبعد مسافة 130 كلم عن البرّ الصيني، في أضيق نقطة من «المضيق التايواني».

(ڤاسكو غارغالو ــ البرتغال)

والحصار هو أحد الأوراق المُتاحة أمام بكين، لإجبار تايبيه على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، لتحقيق عودة الجزيرة إلى السيادة الصينية، ويبدو خياراً مُتقدّماً على ضرب الجزيرة ومن ثمّ اجتياحها، وإسقاط حُكم تايبيه بالقوّة، إن أخذنا في الاعتبار الكلفة البشرية والمادية المُرتفعة للحرب، عدا عن احتمالات تطوّرها من حرب بين الجيشين الصيني والتايواني، إلى حرب مع واشنطن وحلفائها في منطقة المحيط الهادئ. ورغم أن كلفة الحصار تبقى أقلّ من كلفة الحرب، فإنه في حالة تايوان، للحصار كلفة باهظة لن تتحملها الجزيرة وحدَها، لارتباط اقتصادها باقتصاد الصين، ولكونها والمضيق الذي يفصلها عن البرّ الصيني، من ركائز الاقتصاد العالمي.

شريان للتجارة العالمية
«مضيق تايوان» ليس مجرد ممرٍّ مائي، بطول 180 كلم، يفصل بين البرّ الصيني وجزيرة تايوان، وإنّما شريان حيوي للتجارة العالمية، تَمرُّ من خلاله آلاف السفن شهرياً، بمعدّل 240 سفينة كلّ يوم، من ضمنها ناقلات نفط تحمل 11 مليون برميل يومياً، وفق موقع «ترايد ويندز» المُختص في الشحن العالمي. وتعود كثافة الحركة في المضيق إلى اعتماد سفن الشحن له لنقل البضائع من موانئ الصين واليابان (ثاني وثالث أكبر اقتصاد في العالم) وكوريا الجنوبية وتايوان إلى الأسواق في الغرب، وتستخدمه ناقلات النفط والغاز المُسال في نقل واردات الطاقة من مصادرها إلى تلك الدول الصناعية، التي تتربع في أعلى قائمة مستوردي النفط والغاز المسال في العالم.
ووفق «بلومبيرغ» الأميركية، عبَر «مضيق تايوان» منذ بداية العام الجاري، نصف أسطول الحاويات العالمي تقريباً، و88% من أضخم سفن النقل العالمية. بالتالي، فإن أيّ توتر في المنطقة، سيُجبر شركات الشحن البحري على اعتماد مسارات بعيدة من الجزيرة والمضيق أطول من المسار الذي تعتمده حالياً، ما سيزيد أعباء الشحن عليها؛ من الاستئجار إلى المحروقات والتأمين. والمسار البحري الأقرب إلى «مضيق تايوان»، هو «مضيق لوزون» الذي يفصل بين تايوان والفيليبين في الجنوب الغربي للمحيط الهادئ، لكن مشكلته ـــ إلى جانب الوقت الإضافي الذي سيُكبّده لسفن الشحن ـــ أنه يقع في منطقة أعاصير مدارية. فوفق «إدارة الخدمات الجوية والجيوفيزيائية والفلكية» الفيليبينية، يدخل إلى المنطقة أعاصير مدارية أكثر من أي مكان آخر في العالم، يصل عددها في المتوسط إلى 20، وتكون ذروة موسمها بين شهري تموز وتشرين الأول من كلّ عام.

شركاء - أعداء
يرتكز اقتصاد الجزيرة ــ التي يسكنها 23.5 مليون نسمة ـــ على التّصدير، الذي وصلت قيمته إلى 446.4 مليار دولار في عام 2021، ما يُشكّل نحو ثُلثي الناتج القومي الذي تخطّى 700 مليار دولار. وتُمثّل صناعة أشباه الموصلات التي تدخل في تصنيع كلّ ما يرتبط بالتكنولوجيا، نحو 40% من صادرات الجزيرة، علماً بأن حصتها من إنتاج أشباه الموصلات في السوق العالمية تتجاوز الـ64% (يتخطى إنتاج شركة «TSMC» وحدها الـ 50%)، ما يجعلها حلقة مركزية في سلاسل التوريد العالمية، لا يمكن الاستغناء عنها.

240 سفينة يومياً

هو عدد السفن التي تمرّ عبر «مضيق تايوان» ومن ضمنها ناقلات نفط تحمل 11 مليون برميل يومياً

في المقابل، تعتمد الجزيرة بشكل شبه كامل على الاستيراد لتأمين الطاقة، علماً بأنها تستهلك ثُلثي الكميات المستوردة تقريباً على القطاع الصناعي لديها، ومخزونها الاستراتيجي من النفط الخام يكفيها لـ146 يوماً، ومن الغاز الطبيعي ما بين 10 و11 يوماً، ومن الفحم لـ39 يوماً، وفق وزارة الاقتصاد التايوانية، التي حاولت طمأنة التايوانيين بذلك عقب بدء الجيش الصيني مناوراته.
والجزيرة تُؤمّن أيضاً أغلب غذائها من الخارج (معدّل الاكتفاء الذاتي قريب من 35%)، بسبب ضيق المساحات الصالحة للزراعة، وصِغر حجم القطاع الزراعي في الاقتصاد التايواني. وتُعدّ الصين (وهونغ كونغ) الشريك التجاري الأهم لتايوان، إذ يصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى 273 مليار دولار سنوياً، تميل كفة التصدير فيه للجزيرة، فهي تُصدر للبرّ الرئيسي ما يساوي 189 مليار دولار سنوياً، أي 42% من كامل الصادرات التايوانية السنوية. وتصنّف تايوان ضمن أكبر المستثمرين في البرّ الصيني، فخلال عشرين عاماً، راكمت تايبيه استثمارات بالآلاف بات إجمالي قيمتها يتجاوز 193 مليار دولار.

بداية الحصار الصيني؟
إلى جانب استعراض القوّة الذي مارسته القوات الصينية البحرية والجوية في محيط تايوان، عقب زيارة بيلوسي إليها، مارست بكين ضغطاً من نوع آخر تمثّل في وقف استيراد 2000 سلعة غذائية تصنّعها تايوان، وحظر توريد الرّمول إليها من البرّ الصيني. ورغم التأثير الهامشي للسلع المستهدفة بالقرار الصيني على حجم التبادل التجاري بين البلدين، فإن القرار الصيني يزيد من الضغط الداخلي على «الحزب الديموقراطي التقدمي» الحاكم في تايبيه، عبر وضع مزارعي الجزيرة في مواجهة حكومتهم.
تدرك بكين أن هامش المناورة لديها ليس واسعاً، فمن غير الممكن توسيع دائرة السلع التايوانية المستهدفة بالحظر الصيني، من دون إلحاق الأذى باقتصاد الصين، تحديداً أنها تعتمد على تايبيه في مجال أشباه الموصلات، التي تعدُّ صناعة حيوية لاقتصادها، وهي تشكّل ما يزيد عن نصف الواردات التايوانية إليها. ومن غير الممكن للصين، وفق مدير «TSMC» مارك ليو، في حال اجتياحها تايوان، إعادة تشغيل المصانع بـ«القوّة»، لأنها ستُصبح «غير قابلة للتشغيل (...) هذه منشأة تصنيع متطوّرة تعتمد على الاتصال في الوقت الفعلي مع العالم الخارجي، مع أوروبا واليابان ومع الولايات المتحدة». عدا عن ذلك، لن تنحصر التّبعات في ضفتَي المضيق فقط، فوفق تقرير لـ«مجموعة بوسطن الاستشارية» الأميركية، سيتسبب وقف إنتاج أشباه الموصلات في تايوان بتراجع في عائدات شركات الإلكترونيات العالمية يقدّر بـ 490 مليار دولار، ويحتاج نقل الصناعة إلى أماكن أخرى في العالم إلى ثلاث سنوات في الحدّ الأدنى، واستثمار 350 مليار دولار.

استقطبت الصين 3 آلاف مهندس تايواني خبراء في صناعة أشباه الموصلات


ولتدارك السيناريو الكارثي، أقرّ الكونغرس الأميركي، خلال العام الجاري، قانوناً يخصّص 52 مليار دولار تقريباً لدعم صناعة أشباه الموصلات داخل الولايات المتحدة. وتقوم شركة «TSMC» التايوانية ببناء مصنع لها في ولاية أريزونا الأميركية بقيمة 12 مليار دولار، وآخر في اليابان بقيمة 7 مليارات دولار. في المقابل، تسعى الصين من خلال الخطة الاستراتيجية «صنع في الصين 2025» التي أطلقتها في عام 2015، إلى الوصول إلى نسبة 70% من الاكتفاء الذاتي في مجال أشباه الموصلات بحلول عام 2025، مُخصّصةً ميزانية تقدّر بـ 1.4 تريليون دولار لدعم صناعات التكنولوجيا المتقدمة، ومن بينها صناعة أشباه الموصلات. وبالاستناد إلى ما نشرته «تايوان نيوز» في عام 2019، استقطبت الصين لتحقيق هدفها 10% من المهندسين التايوانيين العاملين في صناعة أشباه الموصلات، أي 3000 مهندس تايواني.



أشباه الموصلات (Semiconductor)
هي شريحة أو جهاز شبه موصل للكهرباء يستخدم لتضخيم أو تبديل الإشارات الإلكترونية والطاقة الكهربائية. ومع التطوّر التكنولوجي صارت صناعة هذه الشرائح مرتبطة بصغر حجمها الذي يُقاس بالنانومتر، أي أنها شرائح مجهرية الشكل. لكن وظيفتها أكبر بكثير من حجمها، إذ إنها تستعمل وأساسية وضرورية لإنتاج كل السلع الإلكترونية ذات التكنولوجيا المتطورة، من الطائرات إلى السيارات والغسالات والكومبيوترات وما هو أصغر، ولها استعمالات متعدّدة أخرى في عمليات التوجيه للصواريخ مثلاً أو للطائرات بلا طيار... غالبية الصناعات حول العالم تعتمد على هذه الشرائح من أجل الاستمرار في الإنتاج والتطوير.