الوُجهة التي أُسِّست عليها منجزات الاشتراكية العربية، كانت تفترض حصول تنمية على قاعدة أوسع من الديمقراطية التمثيلية كإطار للمشاركة السياسية. في الاشتراكية، لا تكون التعدّدية السياسية بالمعنى الليبرالي، هي المحدّد لطبيعة النظام، بقدر ما هو التحالف الطبقي العريض للفئات العاملة. وبغياب التداول على السلطة، ليبرالياً، تنتقل وظيفة التمثيل السياسي لهذه الفئات إلى التحالف الجبهوي بين الأحزاب الاشتراكية، والذي عرَفَ في التجربة العربية أشكالاً عدّة، من الاتحاد الاشتراكي في مصر، إلى «الجبهة الوطنية التقدمية» في سوريا، وصولاً إلى جبهة التحرير الجزائرية. وبمعزل عن مآلات هذه الأطر، ولا سيّما في سوريا، فقد استطاعت في حدود ما يسمح به شرط التحويل الاشتراكي حينها، توفير الإطار السياسي الذي يتيح للتنمية الاشتراكية إمكانية الاستمرار، على قاعدة حلوله محلّ «الصيغة التداولية» التي تميّز عمل الديمقراطية الليبرالية. لِنَقُل، إنّ الجبهة هنا، كإطار للتحالف الطبقي السياسي الاجتماعي، العريض، هي بمثابة صيغة لتوسيع مروحة المشاركة في بناء الاشتراكية، ولكن ليس في سياق قديم كنظيره الرأسمالي، بل في إطار حديث نسبياً، وهشّ إلى حدٍّ كبير، قياساً إلى الغرب. فهناك ثمّة قاعدة راسخة تمثّلها الرأسمالية، والتوافق عليها حاصلٌ بين الأحزاب التي تمثّل الثنائيات الليبرالية، حتى تلك التي تنتمي إلى يسار الوسط. وهذا التوافق على حماية عملية التراكم الرأسمالي، هو ما يجعل الأفق السياسي هناك «مفتوحاً باستمرار»، أي بما يؤمّن حماية النموذج وعدم الخروج عنه، في اتجاهات مفارِقة. هذا لم يتوافر بالقدر نفسه للبناء الاشتراكي في الإقليم، وحتى في العالم، لأسباب عديدة، منها ما هو خاصّ ببنية الاشتراكية نفسها، ومنها ما هو متعلّق بطبيعة النماذج التي طُبِّقت منها، في هذه المنطقة من العالم أو تلك.
ضُعف بنية الاشتراكية العربية
النموذج العربي للاشتراكية تميَّزَ بسرعة تحقيقه للإنجازات التي يتطلّبها الانتقال إلى الاشتراكية. فالتأميم في سوريا ومصر والعراق أُنجِز بسرعة قياسية، ومعه الإصلاح الزراعي والانتهاء من سيطرة الإقطاع على المُلكيات الزراعية الكبيرة، قبل أن يبدأ الانتقال التدريجي نحو التصنيع، حتى بالنسبة إلى الزراعة، مع المَكْنَنة وبناء السدود وتثوير أساليب الري... لكن حصول ذلك من تحت، لم يترافق مع إيجاد بنية تشريعية وسياسية مناسبة، من فوق، لحماية هذه المُنجزات في حال حصل الانقلاب عليها، لدى حدوث أيّ تغيّر سياسي، أو حتى اقتصادي. الاشتراكية العربية بهذا المعنى لم تتجذّر كما حصل مع الرأسمالية في الغرب، أو حتى مع الاشتراكية في الصين التي انتهت لاحقاً، إلى رأسمالية دولة، كبرى. الإشكاليات المتعلّقة بازدواجية المُلكية وقيادة البرجوازية الصغيرة للانتقال وثنائية الفلاحين والعمّال وعودة القطّاع الخاصّ بقوّة، لا تكفي وحدها لتفسير سرعة الارتداد الذي حصل عن الاشتراكية، انطلاقاً من مصر، بعد عام 1970. ثمّة خللٌ جوهريّ في البنية السياسية التي أُنشِئت لحماية الاشتراكية العربية، في كلّ بلد من هذه البلدان على حِدة، حيث لا تشبه تجربة انهيار الاتحاد الاشتراكي في مصر نظيرتها الجبهوية في سوريا، وكذا الأمر مع العراق والجزائر. التباينات بين هذه التجارب كانت مفيدة عندما وصلت عملية التحويل إلى أوجها، أو ذروتها، ولكنها تحوّلت إلى عائق أمام استمرار التقاطعات بينها، حينما انهارت التجربة الأمّ في مصر، ولم يعد ثمّة خارطة طريق أو دليل عمل لباقي التجارب، على اعتبار أنّ القيادة كانت معقودة لمصر، بإطارها العام. الاستمرارية التي حصلت سواءً في سوريا أو في العراق والجزائر، كانت مدفوعةً بعامل البقاء والحفاظ على المُنجَزات، أكثر منها بمتابعة عملية البناء، وهو ما أفضى لاحقاً إلى حصول أزمة شرعية، في كلِّ نظامٍ على حِدة. انعكاسُ ذلك على مسار التنمية كان كبيراً، وقد تمثَّلَ في الانعطافة الكبرى نحو الاقتصاد الريعي، في كلٍّ من العراق والجزائر، في حين اختارت سوريا، تطوير قطاع الخدمات، بما يتناسب مع متطلّبات المرحلة الجديدة التي كانت سمتها العامّة، اختيار الطريق الأنسب، للتخلّي عن الاشتراكية.

مسار التحوّل اقتصادياً
مع انهيار التجربة الأمّ في مصر، بدأت النُّظُم الباقية في كلٍّ من سوريا والعراق والجزائر، في اختيار السُّبُل، التي لا تضع هذه التجارب على سكّة المواجهة المستمرّة. اقتصادياً، تمثّل ذلك في اعتماد العراق والجزائر على الريع النفطي كمصدر أساسي للدخّل، وهو ما جعل حصّة الزراعة والصناعة - اللتين تقوم عليهما التجربة الاشتراكية - من الناتج المحلّي في كلا البلدين، تتراجع. ومع تراجُعِها، تناقصت بالضرورة مُدخَلات الطبقة العاملة من فلاحين وعمّال، لمصلحة الريع الذي يمثله الإنتاج النفطي، والذي تتولّى الدولة توزيعه على الناس، على شكل خدمات وسلع. والحال أنّ الريع «كقطاع إنتاجي» ليس كالعمل في المصانع والأراضي الزراعية، حتى لو كان مردوده أكبر مالياً، لأن الصناعة النفطية هي بمثابة استثمار، أكثر مما هي تشغيل للناس، عبر حشد الموارد الوطنية. الفورة النفطية بهذا المعنى لم تحصل في دول الخليج فحسب، بل في قلب النموذج الاشتراكي الذي كان يناهضها، سياسياً، ما أدّى إلى اهتزازه من الداخل، قبل أن تَصِله تأثيرات التحوّلات في الدول النفطية الخليجية. الحصّة المتزايدة للريع من الإنتاج ومن الناتج المحلّي عموماً، على حساب الزراعة والصناعة معاً، أحدثت تحوّلاً في بنية علاقات الإنتاج التي كانت قد استقرّت، نسبياً، مع التحوّل الاشتراكي. الزيادة هنا ترافَقَت مع انتقالٍ ملحوظ لقوّة العمل من القطاعين الزراعي والصناعي إلى قطاع النفط الناشئ، والذي تعتمد ربحيّته على قوّة الاستثمار، أكثر منه على التناسب بين قوّة العمل وعائد الإنتاج لمصلحة الطبقة العاملة والدخل القومي وشبكات التوزيع الاجتماعي.
يمكن القول أيضاً، إن الاستثمار والإنتاج في هذا القطاع لا يحصلان لمصلحة توسيع السوق الداخلية، ومعها توريد الفائض الذي يأتي بالعملة الأجنبية، إلى الخارج، بل تقوم بنيته، سواءً الإنتاجية أو التسويقية، على خدمة الأسواق الخارجية بالكامل. وهذا يتناسب مع كون معظم الاستثمار أو رأس المال الذي يعمل في هذا القطاع، ذا منشأ أجنبي، وغربي تحديداً، ما يجعل العلاقة بينه وبين مجمل الاقتصاد الوطني الذي يخدمه، علاقة غير متناسبة، إن لم نقل، علاقة تبعية.
أضعَف ذلك، ليس فقط التحوّل الاشتراكي في هذه الدول، بل أيضاً الطبقة العاملة العربية التي اعتمد صعودها على مقدار مساهمتها في التحوّل، لجهة عكس علاقات المُلكيّة وتزايُد حصّة الزراعة والصناعة من الناتج المحلّي، وبالتالي تعميق الارتباط بين نموّها كقوى عمل وإنتاج رائدة، وحضورها السياسي في مشهد قيادة الاشتراكية العربية، للإقليم. هذا في العراق والجزائر، حيث حصّة الريع من الإنتاج أكبر من كلّ القطاعات الأخرى، أما في سوريا، فالتراجع كان حاصلاً أيضاً، ولكن ليس في السياق نفسه، كون النفط هنا ليس مصدراً أساسياً للدخل. على أنّ ذلك لم يكبح المسار العام للتخلّي عن الاشتراكية، أو التنصّل منها، فالقطاع الخاصّ هنا عاد بقوّة إلى المشهد في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي. وترافَقَت عودته مع نموٍّ كبير في قطاع الخدمات على حساب القطاعات الرائدة في البناء الاشتراكي، إلى جانب تحوّلات كبرى، أيضاً، في مُلكية الدولة لقطاعات الإنتاج، لجهة استعادة المُلكية الخاصّة على أجزاءٍ كبيرة منها.
تضافُر عاملي النموّ السريع واستعادة القطاع الخاصّ، المُلكية، على الأصول الصناعية السابقة، وضَعَ قطاع الخدمات في مقدّمة الانعطافة الجديدة، ولا سيّما مع التغييرات التي حملتها العولمة إلى الأقسام الأكثر جدّةً وربحية منه، وعلى رأسها، قطاعا الخلوي والإنترنت. هكذا، وبعد وصول التحوّل النيوليبرالي إلى ذروته، غداة الألفية الثالثة، تحوَّلَ القطاع الخاصّ بفعل انحسار الاشتراكية تدريجياً، وضمور نفوذ الطبقة العاملة تماماً، إلى المنتِج الأكبر والوحيد، للسلع والخدمات في البلاد.

كبح العقوبات للفرصة الأخيرة
الحقبة التي حصل فيها هذا التحوّل شهدت منعطفات كبرى في المواجهة مع الغرب والدول الرأسمالية. في ظروفٍ مختلفة، كان ممكناً للمواجهة الجيوسياسية أن توطّد دعائمَ التجربة الاشتراكية بدلاً من إضعافها ومحاصرتها أكثر، ولكنّ الهشاشة التي عانت منها التجربة، أفضَت إلى مسار معاكس، بحيث أصبحت المواجهة مرادفاً للمزيد من التراجع عن الاشتراكية، وليس العكس. حتى خيار بناء رأسمالية دولة على الطريقة الصينية لم يعد مُتاحاً، في ظلّ التراجع المتزايد عن الملكية العامّة لوسائل الإنتاج، لمصلحة القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية. على أنّ حضور العامل الخارجي كان الأكثرَ ترجيحاً للوجهة المعاكسة، إذ لعبت العقوبات التي فُرضت على سوريا والعراق تحديداً، ابتداءً من عقد التسعينيات من القرن الماضي، دوراً كبيراً في كبح هذا المسار الواعد، ولا سيّما في الدول التي كان السماح بالاستثمار الأجنبي فيها، مشروطاً بتقييده والتحكّم به، من جانب الدولة والقطاع العام. والحال أنّ تقييد الاستيراد، بفعل العقوبات، قد أضْعَفَ القطاع الصناعي، المؤهّل أكثر من سواه، لقيادة هذا التحوّل، فازداد النقص في المعروض على نحو كبير، حتى بالنسبة إلى السلع الأساسية، ووُضِعت بالتالي خطط تطوير الصناعة جانباً، إلى حين الانتهاء من مشكلة العجز في تأمين السلع والمواد الأوليّة اللازمة للإنتاج.
إن تلاشي قيمة العملة المحلّية يضع الدولة الخاضعة لعقوبات تحت مقصلة الخضوع الكامل للإملاءات الإمبريالية


حين ينكمش الإنتاج الصناعي بهذه الطريقة، سواءً في القطاعات التحويلية أو الغذائية أو الثقيلة حتى تصبح إمكانية فتح أفق للترسمل بقيادة الدولة، على الطريقة الصينية، ضئيلة جداً، إن لم تكن معدومة. وبالتالي، تتحوّل هذه الدولة المحاصَرة أو تلك، عن هذا الخيار نهائياً، مع كلّ ما يحمله ذلك من خسارة لإمكانية استمرار الاشتراكية، بطريقة مختلفة. هكذا، تصبح الاستمرارية بالنسبة إلى هذه الدول، هي مجرّد الإبقاء على خطوط الإنتاج الأساسية، من غذاء ودواء ووقود... لتأمين حاجة الشرائح الاجتماعية التي بدأت تنهار، تحت وطأة العقوبات والحصار.

وظيفة الحرب الاقتصادية ووطأتُها
الانهيار في هذه الحالة، ليس انهياراً لهذه الشرائح فحسب، أو للفئات الأكثر احتياجاً منها، بل لمجمل العملية الاقتصادية، إذ يصل هذا الأخير إلى ذروته، مع فُقدان السيطرة على مقاليد السياسة النقدية، تحت تأثير الطلب الكبير على السلع، وازدياد كلفة إنتاجها بفعل حظر الاستيراد. ومع ارتفاع الطلب يزداد التضخّم بدوره، ويصل الشحّ في السيولة بالعملة الأجنبية إلى الحدّ الأقصى، حتى لدى الدولة نفسها، لتبدأ عندها الحلقة الأخيرة من التدمير الاقتصادي، الخاصّة بانهيار سعر الصرف. ويمكن القول، إن تلاشي قيمة العملة المحلّية، يضع الدولة الخاضعة لعقوبات تحت مقصلة الخضوع الكامل للإملاءات الإمبريالية، حتى لو لم تكن تعاني من أزمة ديون. وبالتالي نصل حينها، إلى المرحلة التي وصل إليها العراق، حين أُجبر على مقايضة النفط بالغذاء، تحت رعاية دولية. وهي تُعدّ أسوأ مراحل الحرب الاقتصادية، لأنها تنطوي على فقدان الدولة سيادَتها، حتى على الأمن الغذائي.
هكذا، مع اشتداد الحصار، ومعه نظام العقوبات لسنوات طويلة، كما في الحالة العراقية، أو حتى هنا، يتحوّل ذلك إلى وُجهةٍ في هذه الحرب، لا تقلُّ تدميراً، عن الحرب العسكرية نفسها. هذا، إن لم نَقُل إنها تصبح ملازمةً لها، وخصوصاً عندما تكون الرأسمالية في أزمة على مستوى العالم، كما هي الحال منذ فترة. أي حين يتحوّل نظام العقوبات إلى بديل عن الحرب الإمبريالية ذاتها، لصعوبة تأمين الموارد القتالية اللازمة لها، ولا سيّما البشرية منها. والحال أنّ ذلك، يجعل من الحرب الاقتصادية، المستمرّة على الإقليم منذ عقود، بأشكالٍ مختلفة، أداةً، ليس فقط لتدمير اقتصاد هذه الدول، بل أيضاً لقطع الطريق على أيِّ تطوُّرٍ يأخذها إلى خيارات اقتصادية بديلة. هذا، بعد تفريطها، لأسباب ذاتيّة وموضوعية، بفرصة الحفاظ على الاشتراكية، عبر الطريق الذي تمثّله رأسمالية الدولة.