الخصخصة في لبنان مطروحة منذ ما قبل الأزمة. ففي فترة ما بعد الحرب الأهلية راج الحديث عن خصخصة قطاعي الكهرباء والاتصالات، مثلما تمّت، إلى حدّ ما، خصخصة قطاع النقل. في ذلك الوقت، سُوّق للأمر من باب «تحسين الإنتاجية» وتخفيف خسائر الميزانية العامة للدولة. أما اليوم، بعد الانهيار، فيتم الترويج للخصخصة من باب بيع أصول الدولة لتغطية خسائر القطاع المصرفي. في الحالتين، الهدف يكمن في الاستحواذ على هذه القطاعات لتحقيق الريوع على حساب القدرة الشرائية للمقيمين على الأراضي اللبنانية، وهذا ما تظهره معاينة هذا الطرح من خلال مفهوم «اقتصاد الشبكات».
لماذا هو «اقتصاد الشبكات»؟
لأنها قطاعات متصلة بين المصدر الأساسي للخدمات، وبين المستهلك عبر شبكة. وهذا الأمر ينطبق على قطاعات الكهرباء، والماء، والغاز، والنقل، والهاتف. والتعامل مع «اقتصاد الشبكات» يكون مختلفاً جذرياً عن التعامل مع القطاعات الأخرى القائمة ضمن النظام الرأسمالي. فبحسب ما يراه الباحث هانز فيرنر غوتنغر، في دراسة بعنوان «اقتصاد قطاعات الشبكات»، فإن النماذج الاقتصادية الرأسماليّة تحاول أن تقدّر طريقة عمل الأسواق في القطاعات التقليديّة، مثل الصناعة أو الزراعة، من خلال افتراض «المنافسة المثاليّة» في الأسواق. و«المنافسة المثاليّة» هي نظريّة رأسماليّة الأصل، تعود إلى منتصف القرن الثامن عشر، وتشير إلى سيناريو «مثالي» تُحدد فيه الأسعار من خلال العرض والطلب، من دون تدخّل أي عامل خارجي، على أن تكون جميع المنتجات المتاحة من مختلف الشركات متشابهة، وأن يكون ربح الشركات محصوراً فقط بما تحتاج إليه للبقاء في السوق الذي ينتج من سعر التوازن بين جانبي العرض والطلب. أي إن الشركة التي تحاول أن تحقق نسبة ربح أكثر مما هو حاصل في السوق، من خلال رفع السعر، لن تجد زبائن مستعدين لشراء سلعتها ودفع سعر أغلى بسبب وجود منتجين آخرين مستعدين للبيع بأسعار أقل، علماً أن ولوج الشركات إلى السوق وخروجها منه، هما أمر لا عوائق في سبيله.

نوغات ــ لبنان

بشكل عام، يتعامل النظام الرأسمالي مع المنافسة في القطاعات التقليديّة، على أنها تسهم في خفض الأسعار إلى مستوى تنافسي، وبشكل يعزّز رفاهية المستهلك لجهة مستوى الأسعار ونوعيّة الإنتاج. لكن في المقابل، يقول غوتنغر، إن التعاطي مع قطاعات الشبكات أمر مختلف تماماً، إذ إن الأكلاف في هذا القطاع مرتفعة، وبالتالي لا يمكن الدخول إلى السوق من دون تكبّد أكلاف عالية، ولا يمكن الخروج منه من دون تكبّد خسائر مرتفعة. أي أن الدخول إلى السوق والخروج منه فيهما عوائق ماديّة كبيرة، وهو عكس حال «المنافسة المثاليّة». كما أن حركة الأسعار في هذه القطاعات لا تخضع لقواعد العرض والطلب المعروفة في القطاعات التقليديّة، فنوع المنتج المعروض مختلف بجوهره عن أنواع المنتجات التقليديّة. فعلى سبيل المثال، إن الحياة الافتراضيّة للمنتج في قطاع الشبكات تُعدّ قصيرة جداً. (يمكن التفكير هنا بالحياة الافتراضيّة للكهرباء، التي تحتاج إلى إنتاج متواصل على مدار السّاعة لأن الكيلوواط المنتج يُستهلك خلال أجزاء من الثانية).
لكل هذه الأسباب، ولأسباب عديدة أخرى، لا يمكن التعاطي مع قطاعات الشبكات بنفس طريقة التعاطي مع القطاعات التقليديّة. لذلك، لا بُد من الخوض في اقتصادات قطاعات الشبكات بقواعدها الخاصّة، التي شكّلت في العقود الماضية عِلماً فريداً.

مسهّل للاحتكار
يمكن تلخيص الهاجس الأكبر في ما يتعلّق بقطاعات الشبكات بمصطلح «الاحتكار الطبيعي»، بحسب تعبير أندرياس كولمان. يقول الرجل في أطروحة أعدّها بعنوان «مقالات عن صناعات الشبكات: الخصخصة والتنظيم وقياس الإنتاجية»، إن قطاعات الشبكات تُعتبر استثماراً مكلفاً جداً. فرأس المال المطلوب للدخول إلى القطاع ضخم، والأكلاف الثابتة التي يحتاج إليها الدخول إلى القطاع ضخمة جداً، مثل إنشاء معامل توليد الكهرباء أو محطات إنتاج وضخ المياه، ومثل إنشاء شبكات توزيع الكهرباء والمياه. كل هذه الأكلاف الرأسماليّة، تُصنّف «أكلافاً غارقة» (Sunk Costs)، أي أنها غير قابلة للاسترجاع. وهذا ما يجعل الدخول إلى القطاع، بالنسبة إلى شركة جديدة ناشئة، أمراً عالي المخاطر. وهو ما يُعطي الشركات القديمة والخبيرة والقادرة مالياً، الأفضليّة على الشركات الصغيرة الجديدة. بمعنى آخر، هذا الأمر يُعدّ أحد أهم موانع الدخول في المنافسة، وبالتالي هو أهم مُسهّل للاحتكارات.
ولا يقف الأمر عند الأكلاف المرتفعة والمخاطر العالية، بل يمتدّ إلى حقيقة متصلة بطبيعة هذا القطاع الذي يحتاج إلى شبكات ضخمة ممتدة إلى المستهلك بشكل مباشر، أي أن المستهلك لا يستطيع أن يختار بين الشبكات، لأن وجودها بحد ذاته هو أمر مفروض عليه، وهو ما يعطي الشركة المالكة للشبكة أفضليّة واضحة على الشركات الأخرى، بحسب كولمان. فحتى لو كان استعمال الشبكات متاحاً لمقدّمي الخدمات الآخرين، تبقى أفضليّة الشركة المالكة للشبكات موجودة، لأنها تكسب من الريع الاقتصادي من «تأجير» هذه الشبكات للشركات الأخرى.
من ناحية أخرى، يكمل كولمان أنه بمعزل عن أن المنافسة في هذه القطاعات غير ممكنة، فإنها «غير محبّذة» أيضاً. فبما أن هذه القطاعات هي قطاعات خدمات عامّة، فمن الضروري أن تكون هذه الخدمات متوفّرة لجميع المقيمين في البلد. ودخول شركات منافسة على القطاع يهدّد توفّر الخدمات، لأن هذه الشركات تسعى لتقديم الخدمات في المناطق ذات الأكلاف الأقلّ، وذات الطلب الأعلى، لتضمن ربحية عالية. وهذا الأمر يجعلها تتوجّه بشكل طبيعي إلى المناطق الحضريّة، حيث الكلفة أقل والطلب أعلى بسبب الكثافة السكّانية والمساحات الصغيرة. وهذا الأمر يجعل الاستثمارات في الأطراف أقل، وبالتالي يجعل الخدمات هناك أقل جودة. لذا، إن «الاحتكار الطبيعي» لقطاعات الشبكات يفرض التعامل معها بشكل حذر. فالاحتكار هو المسار الطبيعي لهذه القطاعات، وأفضل طريقة لاحتوائه، هو أن يكون مملوكاً من الدولة.

الخصخصة ليست حلاً
هناك اختلافات كثيرة حول نتائج دخول القطاع الخاص إلى قطاعات الخدمات العامّة. ففي معظم الأحيان يتم التعامل مع هذا الموضوع بالقواعد نفسها التي تتعامل فيها الرأسماليّة مع الملكيّة الخاصّة في القطاعات التقليديّة. إلا أنه عند معاينة اقتصاد الشبكات، يتبيّن بوضوح أن الأمر يختلف شكلاً ومضموناً عن القطاعات التقليدية. حتى إن القواعد بينهما مختلفة. فعلى سبيل المثال، لا ينطبق على قطاع الشبكات، القاعدة التي تقول إن الملكيّة الخاصّة تؤدي إلى إنتاجية أعلى، إذ إن ميل هذه القطاعات إلى «الاحتكار الطبيعي» يسهّل على الشركات المحتكرة التحكّم بالأسعار كما تريد، ومع غياب «المنافسة المثاليّة»، لا رادع اقتصادياً أمام الشركات للتلاعب بالأسعار بشكل يزيد ربحيتها، أو بشكل لا يضمن حتى تحسين الخدمات المقدّمة.
ليس منطقياً أن يكون اتجاه الدولة اللبنانية نحو سياسات نيوليبرالية هي في طريقها للاندثار عالمياً


بشكل عام الخصخصة هي تطبيق للأفكار النيوليبرالية، نابع من تقليص دور الدولة في الاقتصاد. لكن المسار النيوليبرالي يتم التراجع عنه عالمياً منذ أكثر من عقد. بدأ هذا الأمر مع الأزمة الماليّة العالميّة في عام 2008، من خلال تدخّل الدّول لإنقاذ قطاعاتها الحيويّة، كما حصل في أميركا التي تدخّلت لإنقاذ أكبر مصارفها. واستكمل مسار الابتعاد عن النيوليبرالية بعد جائحة كورونا مع تدخّل الحكومات، حتى أكثرها تطرفاً رأسمالياً، بشكل أساسي في استمرار الاقتصادات وفي محاولات التعافي.

الخصخصة تنقل الثروة من الدولة إلى الشركات بأسعار أقلّ من أسعارها السوقيّة


لذا، لا يبدو منطقياً أن يكون اتجاه الدولة اللبنانية اليوم نحو سياسات في طريقها للاندثار عالمياً، خصوصاً في ما يخصّ موضوع الخصخصة، وأبرز مثال على ذلك تأميم قطاع الكهرباء في فرنسا، إذ أعلن وزير الماليّة الفرنسي في تموز الماضي عزم الحكومة على إعادة الاستحواذ على 16% من أسهم شركة الكهرباء الفرنسية. فهناك حديث يجري تداوله كثيراً عن الانعكاسات السلبية للخصخصة على الاقتصاد، ولا سيّما في ما يخصّ اتساع فجوة إعادة توزيع الثروة بسبب نتائج الخصخصة. بحسب جون فيكرز وجورج يارو في ورقتهما بعنوان «المنظور الاقتصادي للخصخصة»، تبدأ عملية إعادة توزيع الثروة من خلال نقل الثروة من الدولة إلى الشركات الشارية للقطاعات، حيث تستحوذ هذه الشركات على القطاعات بأسعار أقل من أسعارها السوقيّة. وهذا الانتقال هو من أموال دافعي الضرائب إلى ثروة الشركات الخاصّة. ولكن بشكل غير مباشر، يحدث الانتقال في الثروة من خلال ارتفاع كلفة الخدمات على المقيمين في البلد، وهي أيضاً عملية انتقال الثروة من مستهلكي الخدمات إلى الشركات الخاصّة التي تولّت مسؤولية تقديم الخدمات.