تاريخياً، كان التحدّي الأكبر الذي يواجه المجتمعات هو كيفية إجراء عمليات التجارة والائتمان من دون السماح للتجار والدائنين بجني الأموال عبر استغلال زبائنهم ومدينيهم. أدركت جميع الشعوب القديمة أن الدافع للحصول على المال هو إدمان، ويميل ليكون استغلالياً، بالتالي ضاراً اجتماعياً. عارضت القيم الأخلاقية، لمعظم المجتمعات، الأنانية، وبخاصة تلك التي كانت تأتي على شكل الجشع وإدمان الثروة. هذه الظاهرة أطلق عليها الإغريق اسم «فيلارجوريا»، أي حب المال. تعرّض الأفراد والعائلات الذين ينغمسون في الاستهلاك الفاضح إلى النبذ من المجتمعات القديمة، لأن العُرف كان يقول بأن الثروة يتم الحصول عليها، في معظم الأحيان، على حساب الآخرين، وخصوصاً الضعفاء.
(انجل بوليغان ــ المكسيك)

حماية الناس من الجشع، هي ما كان يُتوقع من الحكام توفيره في خدمة الآلهة. ولهذا السبب أُعطي الحكام السلطة الكافية لحماية السكان من التبعية للديون والزبائنيّة. قديماً، كان زعماء القبائل والملوك والمعابد مسؤولين عن توزيع الائتمان والأراضي الزراعية لتمكين أصحاب الحيازات الصغيرة من الخدمة في الجيش وتوفير عمالة عسكريّة بالسخرة. كان الحكام الذين تصرفوا بأنانية عرضة للإقالة، أو يهرب رعاياهم، أو يدعموا قادة المتمردين أو الأعداء الأجانب الذين يعدون بإلغاء الديون وإعادة توزيع الأراضي بشكل أكثر إنصافاً. لم تكن هناك «ديموقراطية» بمعنى انتخاب المواطنين لقادتهم وإدارييهم، ولكن «الملكية الإلهية» كانت ملزمة بتحقيق الهدف الاقتصادي الضمني للديموقراطية: «حماية الضعيف أمام الأقوياء».
ما لم يكن يبدو محتملاً قبل 2500 عام هو أن أمراء الحرب الأرستقراطيين سوف يغزون العالم الغربي. فمن خلال إنشاء ما أصبح لاحقاً الإمبراطورية الرومانية، سيطرت الأوليغارشية على الأرض، ولاحقاً على النظام السياسي. ألغت هذه الأوليغارشيّة السلطة الملكية أو المدنية، وحوّلت العبء المالي إلى الطبقات الدنيا، وأغرقت السكان والقطاعات في الديون.
تم ذلك على أساس انتهازي بحت. لم تكن هناك محاولة للدفاع عن هذا الأمر أيديولوجياً، بل فُرض كأمر واقع. ففي ذلك العصر لم يكن هناك ميلتون فريدمان لينشر نظام أخلاقي جديد جذري يحتفي بالجشع من خلال الادعاء بأن الجشع يدفع الاقتصادات إلى الأمام، وليس إلى الوراء. ولا ليقنع المجتمع بترك عمليّة توزيع الأراضي والمال إلى «السوق» التي يسيطر عليها القطاع الخاص ومقرضو الأموال بدلاً من أن ينظّمها حكام القصر والمعابد، أو ما يقال عنه بلغة اليوم، الاشتراكية.
لكن إقحام السكان والقطاعات الاقتصادية وحتى الحكومات، في الديون لنخبة الأوليغارشية، هو بالضبط ما حدث في الغرب. وهو اليوم يحاول فرض الشكل الحديث لهذا النظام الاقتصادي القائم على الديون، على شكل الرأسمالية النيوليبرالية المتمركزة في الولايات المتحدة، على العالم بأكمله. هذا ما تدور حوله الحرب الباردة الجديدة اليوم.

سيطرة الدائنين على الحكومات الحديثة
كانت القصور والمعابد في جميع أنحاء العالم القديم أطرافاً دائنة. لكن فقط في الغرب ظهرت طبقة من الدائنين من القطاع الخاص. بعد ألف عام من سقوط روما، أجبرت طبقة مصرفية جديدة، ممالك العصور الوسطى، على الوقوع في فخّ الديون. واستخدمت العائلات المصرفية الدولية سلطتها الدائنة للسيطرة على الاحتكارات العامة والموارد الطبيعية، تماماً مثل سيطرة الدائنين على الأراضي الفردية في العصور القديمة الكلاسيكية.
وشهدت الحرب العالمية الأولى وصول الاقتصادات الغربية إلى أزمة غير مسبوقة نتيجة ديون الحلفاء في ما بينهم، والتعويضات الألمانية. فانهارت التجارة وسقطت الاقتصادات الغربية في حالة الكساد. ما سحبهم من هذه الحالة كان الحرب العالمية الثانية، وهذه المرة لم يتم فرض أي تعويضات بعد انتهاء الحرب. بدلاً من ديون الحرب، اضطرت إنكلترا ببساطة، فتح منطقة الجنيه الاسترليني أمام المصدّرين الأميركيين والامتناع عن إحياء أسواقها الصناعية عن طريق خفض قيمة الجنيه الاسترليني.
خرج الغرب من الحرب العالمية الثانية خالياً، نسبياً، من الديون الخاصة، وبشكل كبير تحت هيمنة الولايات المتحدة. ولكن منذ عام 1945، توسّع حجم الدين، ووصل إلى حدود الأزمة في عام 2008، إذ انفجرت فقاعة الرهن العقاري والاحتيال المصرفي وتراكم الديون المالية، ما أدّى إلى إثقال كاهل الولايات المتحدة واقتصادات أوروبا وجنوب العالم.
قام بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بتحويل 8 تريليونات دولار إلى نقود لإنقاذ ممتلكات النخبة المالية من الأسهم والسندات والرهون العقارية المعبأة، بدلاً من إنقاذ ضحايا الرهون العقارية والدول الأجنبية المثقلة بالديون. وفعل البنك المركزي الأوروبي الشيء نفسه لإنقاذ أغنى الأوروبيين من خسارة القيمة السوقية لثروتهم المالية.
لكن الوقت كان قد فات لإنقاذ اقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا. لقد وصل تراكم الديون من عام 1945 إلى نهاية مجراه. فقد تقلّص التصنيع في الاقتصاد الأميركي، وبنيته التحتية تنهار، وسكانه مثقلون بالديون لدرجة أنه لم يتبق سوى القليل من الدخل المتاح لدعم مستويات المعيشة. كان الرد الأميركي هو محاولة الحفاظ على ازدهار النخبة المالية من خلال استغلال الدول الأجنبية. هذا هو هدف ديبلوماسية الحرب الباردة الجديدة اليوم. إنه ينطوي على استخراج الجزية الاقتصادية من خلال دفع الاقتصادات الأجنبية إلى مزيد من الديون المدولرة، على أن يتم سدادها عن طريق فرض هذه الدول الكساد والتقشف على نفسها.
يصور الاقتصاديون التقليديون هذا القهر على أنه قانون الطبيعة، بالتالي هو شكل لا مفر منه من أشكال التوازن، حيث يتلقى اقتصاد كل دولة «ما يستحق». وتستند النماذج الاقتصادية السائدة اليوم إلى افتراض غير واقعي بأن جميع الديون يمكن سدادها، من دون المسّ بهيكليّة الدخل والثروة. تفترض النماذج أن جميع المشكلات الاقتصادية تعالج نفسها من خلال «سحر السوق»، من دون الحاجة إلى تدخل السلطة المدنية. ويعتبر التنظيم الحكومي غير فعال، بالتالي فهو غير ضروري. وهذا يترك الدائنين، ومنتهكي الأراضي، والخصخصة في حريّة مطلقة لحرمان الآخرين من حريتهم. يتم تصوير هذا على أنه المصير النهائي لعولمة اليوم والتاريخ نفسه.

نهاية التاريخ؟
أم مجرد أمْوَلة الغرب وخصخصته؟

الادّعاء النيوليبرالي هو أن خصخصة المجال العام والسماح للقطاع المالي بتولّي التخطيط الاقتصادي والاجتماعي في البلدان المستهدفة يؤدي إلى ازدهار متبادل المنفعة. من المفترض أن يجعل هذا الخضوع الأجنبي للنظام العالمي المتمركز حول الولايات المتحدة أمراً طوعياً. لكن الأثر الفعلي للسياسة النيوليبرالية كان استقطاب اقتصادات الجنوب العالمي وإخضاعها للتقشف المثقل بالديون.
تدعي النيوليبرالية الأميركية أن خصخصة أميركا وتمويلها وتحوّل التخطيط الاقتصادي من الحكومة إلى وول ستريت، وغيرها من المراكز المالية، هو نتيجة للانتصار الدارويني الذي حقق هذا الكمال وسُمّي «نهاية التاريخ». يبدو الأمر كما لو أن بقية العالم ليس لديه بديل سوى القبول بسيطرة الولايات المتحدة على النظام المالي العالمي، والتنظيم التجاري والاجتماعي. وزيادة في تأكيد الهيمنة، تسعى الديبلوماسية الأميركية إلى دعم سيطرتها المالية والديبلوماسية بالقوة العسكرية.
هناك بديل اقتصادي بالطبع. بالنظر إلى مسار التاريخ القديم، يمكننا أن نرى أن الهدف الرئيسي للحكام القدامى، من بابل إلى جنوب آسيا وشرقها، كان منع الأوليغارشية التجارية والدائنة من تعريض السكان إلى الزبائنيّة وعبودية الدين والقنانة. إذا اتبع العالم الأوراسي، غير الأميركي، الآن هذا الهدف الأساسي، فستتم إعادة تدفق التاريخ إلى مساره ما قبل الغربي. لن تكون هذه نهاية التاريخ، لكنها ستكون بمثابة العودة إلى المثل العليا الأساسية للعالم غير الغربي، المتمثلة في التوازن الاقتصادي والعدالة والإنصاف.
اليوم، اتخذت الصين والهند وإيران، وغيرها من الاقتصادات الأوراسيّة، الخطوة الأولى كشرط مسبق لعالم متعدد الأقطاب، من خلال رفض إصرار أميركا على الانضمام إلى العقوبات التجارية والمالية ضدّ روسيا. تدرك هذه الدول أنه إذا تمكنت الولايات المتحدة من تدمير الاقتصاد الروسي واستبدال حكومتها بوكلاء لها يشبهون يلتسين، فإن البلدان المتبقية في أوراسيا ستكون التالية في الصف.
الطريقة الوحيدة الممكنة لـ«إنهاء التاريخ» هي أن يدمر الجيش الأميركي كل دولة تبحث عن بديل للخصخصة النيوليبراليّة والأمْوَلة. تصر الديبلوماسية الأميركية على أن التاريخ يجب ألا يتخذ أي طريق لا يُتوج بإمبراطوريته المالية الخاصة، التي تحكم من خلال الأوليغارشية العميلة. يأمل الديبلوماسيون الأميركيون في أن تجبر تهديداتهم العسكرية، ودعمهم للجيوش بالوكالة، البلدان الأخرى على الخضوع للمطالب النيوليبرالية، وذلك تجنباً للتعرض للقصف، أو المعاناة من «الثورات الملونة» والاغتيالات السياسية والاستيلاء على الجيش. لكن الطريقة الحقيقية الوحيدة لـ«إنهاء التاريخ» هي الحرب الذرية لإنهاء حياة الإنسان على هذا الكوكب.

نظامان اقتصاديان متناقضان
إن حرب الناتو، بالوكالة، في أوكرانيا ضدّ روسيا هي العامل المحفز الذي يقسم العالم إلى منطقتين متعارضتين مع فلسفات اقتصادية غير متوافقة. الصين، الدولة التي تنمو بسرعة أكبر، تتعامل مع المال والائتمان كمنفعة عامة توزّعها الحكومة على الناس، بدلاً من السماح بخصخصة امتياز احتكار خلق الائتمانات من قبل المصارف التي تأخذ دور الحكومة كمخطط اقتصادي واجتماعي. هذا الاستقلال النقدي الصيني، يعتمد على خلق رأس المال المحلّي بدلاً من اقتراض الدولارات الإلكترونية الأميركية، وعلى تقسيم التجارة الخارجية والاستثمار بالعملة المحليّة بدلاً من الدولار. تنظر أميركا لهذا الاستقلال على أنه تهديد وجودي لسيطرتها على الاقتصاد العالمي.
تدعو العقيدة النيوليبرالية الأميركية إلى إنهاء التاريخ من خلال «تحرير» الطبقات الغنية من حكومة قوية تمنع استقطاب الثروة، وحماية هذه الطبقات من الانحدار والسقوط في نهاية المطاف. تنوي أميركا «نشر ديموقراطيتها»، من خلال الناتو من أوكرانيا إلى بحار الصين. هذا المسار يبدأ بفرض عقوبات تجارية ومالية ضد روسيا وإيران وفنزويلا ودول أخرى تقاوم الديبلوماسية الأميركية، وينتهي بمواجهة عسكرية.
يبدو أن الغرب، في نسخته النيوليبرالية الأميركية، يكرّر نمط تراجع روما وسقوطها. لطالما كان تركيز الثروة في أيدي 1% من السكّان هو مسار الحضارة الغربية. إنه نتيجة العصور القديمة الكلاسيكية التي اتخذت مساراً خاطئاً عندما سمحت إمبراطوريتا اليونان وروما بنموّ خبيث للديون، ما أدّى إلى مصادرة الكثير من المواطنين وتحويلها إلى عبودية لأوليغارشية مالكة للأرض. هذه هي الديناميكية في داخل ما يسمى بالغرب، وهي تأتي من دون أي إشراف حكومي من أجل المصلحة العامة.
تهدف الولايات المتحدة، عبر حربها الباردة الجديدة، إلى تأمين الجزية الاقتصادية من الدول الأخرى. قد يستمر هذا الصراع ربما لمدة عشرين عاماً، وهو سيحدد نوع النظام السياسي والاقتصادي الذي سيحظى به العالم مستقبلاً. لا يدور الخلاف فقط حول هيمنة الولايات المتحدة وسيطرتها الدولارية على التمويل الدولي وخلق الأموال. فهو أيضاً يتّحد من الناحية السياسية، حول فكرة «الديموقراطية» التي أصبحت تعبيراً ملطفاً عن الأوليغارشية المالية العدوانية التي تسعى إلى فرض نفسها عالمياً من خلال السيطرة المالية والاقتصادية والسياسية المفترسة المدعومة بالقوة العسكرية.
أوجدت الصين دولة قوية بما يكفي لمقاومة ظهور الأوليغارشية المالية التي تسيطر على الأرض والأصول المدرّة للريع


لإنقاذ نفسها من الانجراف إلى دوامة الدمار الاقتصادي التي تجتاح الغرب الآن، تعمل البلدان في أوراسيا على تطوير مؤسسات اقتصادية جديدة تستند إلى فلسفة اجتماعية واقتصادية بديلة. ونظراً لأن الصين هي الاقتصاد الأكبر والأسرع نمواً في المنطقة، فمن المرجح أن تكون سياساتها الاشتراكية مؤثرة في تشكيل هذا النظام المالي والتجاري غير الغربي الناشئ.
فبدلاً من خصخصة الغرب للبنية التحتية الاقتصادية الأساسية، بهدف خلق ثروات خاصة من خلال استخراج الريع الاحتكاري، تبقي الصين هذه البنية التحتية في أيدي القطاع العام. تتمثل أفضليّة هذا النظام على الغرب في أنه يتعامل مع المال والائتمان على أنهما منفعة عامة، يتم توزيعها من قبل الحكومة بدلاً من السماح للمصارف الخاصة بخلق الائتمانات. كما تحتفظ الصين بالصحة والتعليم والنقل والاتصالات في أيدي الجمهور، باعتبارها من حقوق الإنسان الأساسية.
تمثل السياسة الاشتراكية للصين، من نواحٍ عدة، عودة إلى الأفكار الأساسية عن المرونة التي ميّزت معظم الحضارات قبل اليونان الكلاسيكية وروما. لقد أوجدت الصين دولة قوية بما يكفي لمقاومة ظهور الأوليغارشية المالية التي تسيطر على الأرض والأصول المدرّة للريع. على النقيض من ذلك، تكرّر الاقتصادات الغربية اليوم على وجه التحديد تلك النزعة الأوليغارشية التي استقطبت ودمرت اقتصادات إمبراطوريتي اليونان وروما.

* هذا المقال مقتطع من مقال أوسع نشره مايكل هادسن على مدونته الخاصّة michale-hudson.com في 13 تموز 2022