ارتأى البنك الدولي إصدار تقرير «مراجعة المالية العامة حول لبنان، بعنوان «بونزي مالي». المسؤول عن إعداد هذا التقرير هو خبير الاقتصاد القياسي وسام الحركة، وهو الذي أعدّ تقارير المرصد السابقة التي اشتهرت بعناوينها: «لبنان يغرق»، «الكساد المتعمّد»، «الإنكار الكبير»... وكان تقرير مراجعة المالية العامة، إلى جانب المرصد الدوري، إحدى مهماته الأخيرة في لبنان قبل أن ينتقل إلى موقع آخر في البنك الدولي. الحركة تمكّن، بالتعاون مع فريق من البنك الدولي ومن خارج البنك الدولي، من إنجاز هذه المراجعة وارتأى أن يكون المدخل لتوصيف مخطط البونزي المالي في لبنان انطلاقاً من شكل التقرير الأساسي الذي يتعلق بالمالية العامة. بمعنى أوضح، إن الجزء الأكثر أهمية في التقرير هو ذلك الذي يتعلق بمصادر الإنفاق في المالية العامة، أي الفوائد على الدين. لذا، كان المعيار المتخذ في الدراسة هو الفائض الأولي وتقسيم كل ما يحصل في المالية العامة على أساس هذه المراحل الأربع.

في المرحلة الأولى التي تمتد بين عامي 1993 و1997، فإن السمة الأساسية فيها كانت عملية إعادة الإعمار الذي سُجّل فيها عجز واضح في الميزان الأولي يتضمن زيادة التوظيف والنفقات الرأسمالية والدين. أما في المرحلة الثانية، التي بدأت في عام 1998 واستمرّت لغاية 2002، فإن التقشف كان طاغياً على نتائج الميزان الأولي بسبب انخفاض النفقات الرأسمالية وزيادة الضرائب ما أدّى إلى عودة المالية العامة إلى توازن ما. لكن في المرحلة الثالثة الممتدة بين عامي 2003 و2011، فإن الفائض كان واضحاً في الميزان الأوّلي، وكانت انعكاسات مؤتمرات باريس بدأت تظهر في التدفقات الواردة إلى لبنان، فضلاً عن زيادة في أسعار النفط وتدفقات نتجت من الأزمة المالية العالمية... وفي المرحلة الرابعة بدأ البونزي يصبح أكثر وضوحاً، إذ إنه في هذه السنوات وبسبب تداعيات الحرب في سوريا ونزوح آلاف السوريين إلى لبنان، وشحّ التدفقات المالية الواردة، توسّع مصرف لبنان في العمليات المالية غير التقليدية فيما وسّعت الحكومة إنفاقها السياسي عبر الخزينة.
هذه الديناميات في تطوّر النفقات الحكومية لا تُظهر الصورة كاملة، بل تعكس جزءاً من جهود صنّاع السياسة في إخفاء الحقائق، إذ يظهر الأمر بشكله الأوضح في المرحلة الرابعة التي سبقت الأزمة والتي اندفع فيها مصرف لبنان نحو تنفيذ عمليات مالية غير تقليدية، إذ إنه في السابق كان يعتمد بشكل أساسي على التدفقات التي توفّرها مؤتمرات المانحين، أو تلك التي أتت بالصدفة على حساب أحداث أخرى في العالم. فعندما توقفت هذه التدفقات، برزت الديناميات الخفية للنموذج الاقتصادي في لبنان من دون أن تترك أي مجال للشكّ بأنها هي أساس المالية العامة، وأن مصرف لبنان كان هو القائد والصانع الوحيد للسياسات.
بنتيجة قراءة معمّقة للمالية العامة مقارنة مع هذه الديناميات، فإنه يظهر الآتي:
- هناك استدانة سنوية ظاهرة بقيم أكثر أو أقلّ من الحاجات التمويلية السنوية، إنما مجموعها النهائي للفترة الممتدة بين عامي 1993 و2019 هو 6.7 تريليون ليرة.
- في نهاية 2019، كان يفترض أن يكون الدين 54% من قيمة الدين المحقق إذا أُخذ في الحسبان أن كل ما أُنفق بشكل شرعي أو غير شرعي هو ضمن الحاجات التمويلية.
- في نهاية 2019، كان يفترض أن يكون الدين 31% إذا أُخذ في الحسبان أن الحاجات التمويلية التي وافق عليها مجلس النواب هي فقط الدين الشرعي.
بمعنى أوضح، يقرّ البنك الدولي، بأن الدين الشرعي هو ثلث الدين القائم. وبدلاً من أن يكون 134 ألف مليار ليرة (على سعر صرف 1507.5 ليرات لكل دولار)، فإنه كان يفترض أن يكون 41 ألف مليار ليرة، إذ ليس كل ما أُنفق على أيدي عصابة السلطة، حاصلاً على الشرعية في مجلس النواب. لذا، يمكن القول إن الدين القائم حالياً هو دين غير شرعي، وذلك بإقرار من البنك الدولي نفسه. ففي إحدى فقرات التقرير يشير البنك الدولي إلى أن الفروقات بين الدين المسجّل فعلياً على الحكومة الآن، وبين الدين بشكله المفترض قبل أن يتم نفخه، مرتبط بشكل وثيق بحساب ميزان المدفوعات. ففي السنوات التي كان يسجّل فيها ميزان المدفوعات فروقاً إيجابية، كانت السلطة تقترض حتى لو خارج حاجاتها الفعلية، وكانت تتوقف عن الاقتراض إذا سجّل ميزان المدفوعات عجزاً حتى لو كانت بحاجة إلى الاقتراض فعلياً. يمكن قراءة هذا الوضع في ما حرفيته: «من الواضح أن الاقتراض العام خدم أهدافاً غير تمويل العجز العام. نحن نؤكد أن الهدف الأساسي هو مواءمة حاجات ميزان المدفوعات من خلال الحفاظ على ربحية النظام المصرفي واجتذاب تدفقات رأس المال... كانت السياسة المالية في لبنان مكوّناً أساسياً من نموذج النموّ المعيب الذي كان عرضة للصدمات الخارجية والداخلية المفرطة، إنما كان الأمر مقصوداً عن سابق تصميم».
من الواضح أن الاقتراض العام خدم أهدافاً غير تمويل العجز العام


هكذا يصبح المنطق الذي فرضه صنّاع القرار في لبنان على المجتمع، هو منطق النهب المتعمّد الذي يخفي وراءه عمليات تشبيح وشفط مارستها قوى الحكم على مدى 26 عاماً، كما يظهر من أرقام وتحليل المعطيات في هذا التقرير. وفي المقابل، روّجت هذه القوى لسرديات محكومة بمنطق غير حقيقي كان يقول إن سلسلة الرتب والرواتب هي المسؤولة عن الانهيار، وإن الكهرباء هي السبب... لكن البنك الدولي يقول الآتي: «لم تكن كلفة القطاع العام/ العاملين في القطاع العام مفرطة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، وإنما كان تأثيرها يتعلق بفاعليتها والخضوع السياسي. أما بالنسبة إلى النفقات الرأسمالية التي تُدرج الكهرباء ضمنها، فإنها «انخفضت إلى ما دون كلفة الصيانة واستمرارية الخدمة، وهذه لا نراها إلا في الدول المنخفضة الدخل أو الهامشية».



تغطية الدين بالذهب


ألغى مصرف لبنان، على ثلاث مراحل (2002 و 2004 و 2007) مبلغاً إجمالياً يعادل 3.73 مليارات دولار أميركي من الدين العام بالليرة اللبنانية (5597 مليار ليرة لبنانية) من محفظته، مقابل إعادة تقييم «محاسبيّة» للذهب. كانت هذه الإلغاءات، بشكل جزئي على الأقل، أحد مكوّنات سلسلة اتفاقيات مؤتمر باريس. وبما هو معروف رسمياً، لم يتم بيع أيّ من هذا الذهب لتحقيق الربح الفعلي. أدّت عمليات إعادة التقييم المذكورة إلى خفض مقنع للدين العام وحرمان مصرف لبنان من إيرادات الفوائد على الدين الملغى، مع تقليل عجز الحساب العام لجميع السنوات اللاحقة. عند احتساب أثر أسعار الفائدة على هذا الدين الملغى، يظهر أن قيمة الـ3.73 مليارات دولار المقنعة التي تمّ إلغاؤها محاسبياً من الدين العام تصبح قيمتها 10.3 مليارات دولار أميركي (15929 مليار ليرة لبنانية).