يرى الاقتصادي الأميركي مايكل هدسون في مؤلّفه الأخير «قدر الحضارة» الذي صدر عام 2022 أنّ أفول الغرب وخاصة الولايات المتحدة يعود إلى صعود الرأس المالية الريعية المالية وثقافة الاستدانة. فالإدارة الأميركية قررت في عهد ريتشارد نيكسون، قطع العلاقة مع الذهب والمضي في طباعة الدولار لتمويل سياستها الخارجية ونشر القواعد العسكرية في العالم. تحولٌ كهذا، أسهم في تحويل الاقتصاد الإنتاجي للولايات المتحدة، إلى اقتصاد ريعي مالي بعد توطين القاعدة الإنتاجية في دول الجنوب الإجمالي. عملياً، التحوّل في البنية الرأسمالية يعود إلى طغيان الفكر النيوليبرالي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ويتلازم هذا الطغيان مع الداروينية الاقتصادية، ومع ثقافة افتعال الحروب لتغذية البنية الأوليغارشيّة. ووصلت الأمور إلى نقض فلسفة المؤسسات التي أنشأها الغرب لتنظيم العلاقات الدولية. إذ إن ما يطرحه الغرب الأنغلوساكسوني هو إحلال نظام «القيم والأحكام» الذي لا قاعدة قانونية له، محلّ القانون الدولي والأمم المتحدة وفرضه بالقوّة العسكرية إذا لزم الأمر.
انجل بوليغان ــ المكسيك

هذه التحوّلات لم تكن مقبولة لعدد من الدول التي ترفض الرضوخ للهيمنة الأميركية. دول الجنوب الإجمالي، تنظر اليوم إلى نموذج مختلف تعرضه الكتلة الأوراسية بقيادة روسيا والصين لأنه يرتكز إلى فكر، ومؤسّسات، وخطة عمل. إذ تعتبر هذه الكتلة أن العلاقات الدولية يجب أن تكون مبنية على الندّية والاحترام المتبادل والتعامل بينها محكوم بقاعدة «اربح - اربح» المختلفة جذرياً عن القاعدة الصفرية للغرب «الربح للغرب والخسارة للباقين». فعلى سبيل المثال، عقد الغرب «اتفاقات شراكة» مع دول الجنوب الإجمالي من بينها اتفاقات الاتحاد الأوروبي مع عدد من دول حوض المتوسط. كانت هذه الاتفاقات بين أطراف غير متوازين في القوّة، ولا تتضمن استثمارات طويلة المدى في دول الجنوب، بل فقط في قطاعات استخراج الطاقة والمعادن. لكن في المقابل، تعرض الكتلة الأوراسية التشبيك الاقتصادي عبر تكثيف التواصل البري والبحري والرقمي. وهذا مشروع يرتكز إلى شبكة مؤسّسات ستحكم العلاقات الدولية وهي: منظمة الأمن المشترك (CSTO)، منظمة البريكس (BRICS)، الوحدة الاقتصادية الأوراسيّة (EAEU)، مبادرة الحزام الواحد (BRI)، ومنظمة التعاون شنغهاي (SCO).
- منظمة الأمن المشترك تأسّست في مطلع التسعينيات بهدف تماسك الجمهوريات السوفياتية السابقة تحت مظلّة روسيا.
- منظومة شنغهاي للتعاون، هي أكبر منظومة سياسية اقتصادية أمنية على الصعيد الجغرافي والسكّاني والناتج الداخلي. فهي تغطّي 60٪ من القارة الآسيوية، و40٪ من سكّان العالم، و30٪ من الناتج الداخلي العالمي (أكثر من ناتج دول مجموعة السبع G7 لعام 2020). أنشئت عام 1996 باسم «مجموعة شنغهاي الخمس» ثم تحوّلت عام 2003 إلى المنظمة التي نعرفها اليوم. الدول المؤسسة هي الصين وكازخستان وقرغيزستان وروسيا وطاجاكستان. في عام 2001 التحقت أوزبكستان، ثم باكستان والهند في عام 2017، والجمهورية الإسلامية في إيران في عام 2021. والمنظمة تضمّ دولاً كمراقبين، كأفغانستان وبلاروسيا ومنغوليا. وهي أيضاً في إطار الحوار مع أرمينيا وأذربيجان وكمبوديا والنيبال وسريلانكا وتركيا. ومن المؤسسات الضيوف هناك منظمة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، والأمم المتحدة، وتركمانستان. نلاحظ أن محطّات النشأة والتكوين تلازمت مع تحوّلات دولية كإنشاء منظمة العمل المشترك (1996) واحتلال أفغانستان (2002) والعراق (2003).
أنجزت هذه المنظومة سلسلة من الاتفاقات الأمنية لمواجهة الإرهاب والانفصال والتطرّف ومحاربة تجارة المخدّرات وفيها عمل تكاملي يضم دولاً آسيوية، فضلاً عن نشاط عسكري. أما اقتصادياً، فهناك سلسلة من المشاريع الاستثمارية في البنى التحتية للدول المشاركة، كما وقعت اتفاقات لتنشيط تدفق السلع في ما بينها. فإلى جانب الاستثمارات في الطاقة، هناك استثمارات في مؤسّسات مالية كإنشاء تجمع لمصارف آسيوية عام 2005 باسم «أس سي أو انتربنك كونسورسيوم». المصارف الأعضاء هي مصرف التنمية في كازاخستان، مصرف RSK في قيرغزستان، مصرف الصين للتنمية، VEB.RF، مصرف أموناتبنك الحكومي للتوفير في طاجيكستان (Amonatbonk State Savings Bank)، المصرف الوطني لجمهورية أوزبكستان للنشاط الخارجي، مصرف حبيب المحدود في باكستان، وشركة تمويل البنى التحتية في الهند. وهناك عدد من المصارف بصفة مراقب تعود لمصرف بلاروسيا، المصرف الأوراسي للتنمية، ومصرف التنمية في منغوليا. أما مصرف التنمية العائد للمنظمة، فتم استبداله بالمصرف الاستثماري الآسيوي للبنى التحتية عام 2015.
- الوحدة الاقتصادية الأوراسيّة تأسّست في أيار 2014 وأصبحت قائمة في كانون الأول 2015. تمّ الاتفاق على توقيع المعاهدات بعد الانقلاب في أوكرانيا الذي دبّرته المخابرات المركزية الأميركية عام 2014. إذ فهمت روسيا أنه لا بد من بناء مؤسسات سياسية وأمنية واقتصادية وعسكرية ومالية تستغني عن الغرب. وفكرة الوحدة الاقتصادية الأوراسية كانت موجودة منذ التسعينيات إذ بدأ العمل بها لتكوين تكامل اقتصادي منذ تاريخ تفكّك الاتحاد السوفياتي في عام 1991 بين روسيا وبلاروسيا وكازخستان. ويعود لرئيس كازخستان نور سلطان نزاربايف طرح الفكرة في خطاب له في جامعة موسكو ، إلا أن التطبيق تباطأ خلال التسعينيات بسبب الأزمات التي مرّت بها روسيا، فضلاً عن أنها ما زالت خاضعة لتحوّلات داخلية مؤسساتية تتوخى إيجاد هيكلية نهائية تشمل برلماناً ومجلساً إدارياً شبيهاً بالاتحاد الأوروبي. ويمكن اعتبار منظمة الوحدة الاقتصادية الأوراسية، بمثابة المشروع الخاص للرئيس الروسي بوتين كما أنها مؤسسة تتكامل مع مؤسسة مبادرة الحزام الواحد.
- مبادرة الحزام والطريق، أو الحزام الواحد - الطريق الواحد، أو طريق الحرير الجديدة، التي أطلقتها الصين منذ عام 2013. هذه المبادرة تهدف إلى إيجاد شبكة برّية من الطرقات وسكك الحديد تغطّي القارة الآسيوية وصولاً إلى أفريقيا وأوروبا، وقد تطال 149 دولة. وتشير دراسة أعدّها البنك الدولي، أن هذه الشبكة ستسهم في زيادة التجارة البينية بنسبة 4.1٪، وتقلّص كلفة النقل للتجارة العالمية بنسبة قد تصل إلى 2.2٪. أما التأثير على الناتج الداخلي لدول آسيا والمحيط الهادي فقد يزيد الإنتاج بنسبة تصل إلى 3.9٪. وقد يصل الرقم الإجمالي للتجارة العالمية إلى أكثر من 7 تريليون دولار سنوياً بحلول عام 2040 وفقاً لدراسات أعدّها مكتب الاستشاري في لندن CEBR، وهذا سيتحقق عبر التواصل التشبيكي الفائق (hyperconnectivity) في عصر الثورة التكنولوجية الرابعة وعصر الذكاء الاصطناعي. فمع شبكات الطرق وسكك الحديد هناك شبكات التواصل السريع والإنترنت ما يحوّل العالم إلى قرية كبيرة بسبب التواصل.
تشكّل المبادرة غطاء للاستثمارات الصينية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وهي أفرزت مؤسّسات تنفيذية لهذه السياسات، أهمها في عام 2013 إنشاء مصرف الاستثمار الآسيوي في البنى التحتية برأس مال 100 مليار دولار. وفي عام 2015 تجاوزت محفظة القروض 160 مليار دولار. إضافة إلى ذلك، أعلن الرئيس الصيني جي زي بينغ عام 2014، إنشاء صندوق للتنمية منفصل برأسمال 40 مليار دولار وبدأ الإقراض في عام 2016. سياسة الصندوق هي الاستثمار في مشاريع قائمة وليس في مشاريع جديدة.
الولايات المتحدة تنظر بريبة كبيرة لهذه المبادرة التي تنفذها الصين بسبب النفوذ الذي قد تستحوذ عليه بفضلها على حساب مصالح ونفوذ الولايات المتحدة. وقد حاول الرئيس الأميركي جو بايدن طرح مشروع بديل في قمة الأطلسي الأخيرة، بعنوان «بناء أفضل» للاستغناء عن الطاقة الأحفورية، إلا أن الطرح لم يجد صدى لدى المشاركين بسبب قوّة دفع المبادرة الصينية. فإيطاليا شريكة فاعلة في تنفيذ المبادرة وإيصال التواصل مع آسيا وأفريقيا. والصين أنجزت حتى الساعة شبكة واسعة في وسط وجنوب غرب آسيا مروراً بباكستان ووصولاً إلى إيران. والهدف هو الوصول إلى شرق بحر المتوسط عبر العراق وسوريا.
قيمة الاستثمارات الصينية عبر مبادرة الحزام الواحد بلغت أكثر من 120 مليار دولار عام 2020 و2021 وتشمل أنابيب نفط وغاز. كما أنّ المؤسسات الصينية استثمرت أكثر من 20 مليار دولار في البنى التحتية في عدد من الدول الآسيوية. والمعلومات تُفيد أنّ الصين استثمرت في مبادرة الطريق الواحد أكثر من 6 مليارات دولار في الطاقة الخضراء ما ينفي مزاعم غربية بعدم اكتراث الصين للموضوع البيئوي.
- منظومة البريكس وهي أهمّ منظومة سياسية اقتصادية في العالم. بدأ التشاور حول إنشائها في أيلول 2006 على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك. وضمّت آنذاك وزراء خارجية روسيا والصين والهند والبرازيل. تاريخ انعقاد هذا الاجتماع مهم، لأنه أتى في أعقاب حرب تموز 2006 وفي ذروة تعثّر المشروع الأميركي في العراق بسبب ضربات المقاومة العراقية. في عام 2010 التحقت جنوب أفريقيا بالدول الأربعة، إلّا أن الاجتماع للقمّة الأولى كمنظمة قائمة بحد ذاتها لم يحصل إلا في عام 2011 بعدما بدأ الحراك الشعبي في عدد من الدول العربية بإيعاز أجهزة مخابراتية غربية كما تبيّن لاحقاً. ولكن اللافت في تاريخ عقد القمة الأولى الدلالات على استشراف المستقبل لدى القيادات الروسية والصينية لمشاريع الهيمنة الأميركية. هذه المنظومة بدأت تتبلور بعد حرب تموز، ثم بعد خطاب بوتين الشهير في ميونخ عام 2008 حين حذّر من القطبية الأحادية وضرورة مراجعة الولايات المتحدة لسياساتها. من الواضح أن الولايات المتحدة لم تأخذ في الاعتبار التحذيرات الروسية، ودفعت في أوكرانيا ثمناً يقوّض أحاديّتها.
بعد عام 2012 عملت منظومة البريكس على تعميق علاقاتها المتبادلة عبر إنشاء مؤسسات مالية مشتركة كبنك التنمية وصندوق النقد الدولي. في البداية لم يكن هدف البريكس إنشاء منظومة موازية لصندوق النقد الدولي حتى أنها قرّرت تغذية هذا الأخير بـ75 مليار دولار بشرط إجراء إصلاحات جوهرية. لكن لم تكترث الولايات المتحدة لرغبات مجموعة البريكس، فتجاهل صندوق النقد الدولي مطلب الإصلاح فيما قرّرت المنظومة المضيّ في إنشاء بنك التنمية الجديد وصندوق نقد يحاكي متطلبات الدول المشتركة وابتدأ العمل بهما عام 2015. واليوم هناك عدد الدول التي تطلب الالتحاق بهذه المنظومة مثل الجمهورية الإسلامية في إيران التي نالت موافقة قيادات المجموعة على انضمامها عام 2023، فيما طلبت الانتساب كل من مصر وسوريا والجزائر والأرجنتين وبلاد الحرمين. فالدول العربية الرئيسية ودول في الجنوب الإجمالي تعتبر أن المستقبل قد يكون مع تلك المنظومة بدلاً من منظومة المؤسسات الغربية التي سجلّها كان وما زال سلبياً للغاية بالنسبة إلى مصالحها.
بنك التنمية الجديد مركزه الرئيس في شنغهاي ورأسماله يوازي 100 مليار دولار، وسيركّز أعماله على تمويل مشاريع البنى التحتية على ألا تُجاوز مجمل القروض 34 مليار دولار سنوياً. حتى الساعة موّل البنك 15 مشروعاً بقيمة 15 مليار دولار. أما صندوق النقد، فجرت تسميته بـ «تدبير الاحتياطي للحالات الطارئة»، ويهدف إلى توفير السيولة لمعالجة العجوزات الطارئة في ميزان المدفوعات للدول الأعضاء برأس مال 100 مليار دولار، وحقوق سحب لكل دولة عضو يوازي مساهمتها فيه باستثناء الصين التي لديها سقف للسحوبات لا يُجاوز 50٪ من مساهمتها، وجنوب أفريقيا التي تستطيع أن تسحب ضعف مساهمتها، أي هناك توازناً بين الأكثر قدرة مالياً، والأقل قدرة.
أهمية مجموعة البريكس في حجمها الجغرافي والسكّاني والاقتصادي، والآن في القدرات العسكرية. فالمساحة الجغرافية التي تغطّيها المجموعة هي شبه كامل القارة الآسيوية، أجزاء كبيرة من أفريقيا وأميركا اللاتينية، أما التوقعات للناتج الداخلي للدول الأعضاء فتصل إلى أكثر من 30 تريليون دولار بحلول عام 2027، أي بارتفاع يُجاوز 7٪ سنوياً. وإذا قارنّا هذه الأرقام بتلك العائدة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فنجد أن التوازن في الناتج الداخلي لأوروبا والولايات المتحدة هو 23 تريليون دولار لكل واحد منهما إلا أن معدّلات النمو للسنوات القادم سلبية بينما معدلات النمو لدول البريكس أكثر من 7 في المائة سنوياً.
بعد عام 2012 عملت منظومة البريكس على تعميق علاقاتها المتبادلة عبر إنشاء مؤسسات مالية مشتركة كبنك التنمية وصندوق النقد الدولي


هناك تقدم كبير في المحادثات لإنجاز نظام مدفوعات عالمي مستقل عن الدولار. كما أن شبكة نقل المعلومات للتحويلات موازية لمنظومة «سويفت» موجودة لدى كل من روسيا والصين والهند وهي قيد الإنجاز. ولكن ربما أهم نقطة هنا هو التركيز على التبادل بالعملات الوطنية والبحث عن عملة تستند إلى سلة من العملات الوطنية والثروات المعدنية والطاقة لتكون ركيزة التبادل التجاري بدلاً من دولار لا يرتكز إلى شيء.
الابتزاز الذي كان يقوم به الغرب وخاصة الولايات المتحدة على الدول عبر السيطرة على شرايين المال وهيمنة الدولار لم يعد مقبولاً لدى مجموعة البريكس والعديد من دول الجنوب الإجمالي. طبعاً هناك الكثير من التشكيك الغربي وفي بعض الدول العربية، حول دور وإمكانيات دول البريكس مجتمعة وتأثيرها السياسي والاقتصادي والمالي. فحالة الإنكار هي السائدة في هذه الأوساط لعالم تغيّر جذرياً إذ لم تعد الأحادية القطبية قائمة، بينما صعود الشرق والجنوب الإجمالي يشكل البديل. المستقبل سيكون من صنع الشرق وذلك الجنوب.

* باحث وكاتب اقتصادي سياسي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي