الغرب أصبح في مرحلة الأفول الذي يسبق الانهيار. وقدر الغرب هو قدر حضارة بُنيت على مفاهيم لم تنعكس على خيارات النخب الحاكمة منذ اكتشاف القارّة الأميركية في أواخر القرن الخامس عشر. فقد استطاع الغرب تسويق خياراته وسياساته المبنية على مفاهيم «التنوير» التي كرّست حقوق الإنسان والمساواة والمحاسبة والمساءلة والتداول بالسلطة، إلا أن هذه الشعارات الجذّابة لم تكن في صلب السياسات الداخلية والخارجية للنخب الحاكمة. ولم تأت رفاهية الغرب بسبب النهضة الاقتصادية والثورتين الزراعية والصناعية، بمقدار ما أتت بعد نهب واضطهاد الشعوب الحُمر والسُّود والسُّمر والصُّفر. الغرب الذي زعم احترام الإنسان لم يستطع أن يتكيّف مع الآخر. ويبرز جورج قرم في مؤلفه «أوروبا وأسطورة الغرب» أن الغرب في القرن التاسع عشر اخترع مفهوم الآخر ليبرّر سيطرته على الشعوب المستعمَرة ويقلّل من إنسانيتها. وسياسات الغرب خلال القرنين الماضيين أكّدت وحشيته تحت ذريعة «تمدين» الآخر.
(انجل بوليغان ــ المكسيك)

الرأسمالية الإنتاجية أو الصناعية التي نشأت في الغرب كانت انتفاضة ضدّ الطبقة الحاكمة المكوّنة من ملّاكي العقارات. والنظرية الاقتصادية الكلاسيكية كانت تهدف إلى تشجيع التنافس، وإلى كسر سيطرة هذه الطبقة. والرأسمالية الصناعية كانت رأس الحربة ضدّ هذه الطبقة، فأسهمت في ترويج الديمقراطية، أي إعطاء الحقّ للناس للتصويت ضد طبقة ملّاكي الأرض. هكذا نشأت أسطورة تلازم الرأسمالية والديمقراطية التي تجلّت في كتاب فرنسيس فوكوياما، أن التاريخ انتهى بسيطرة الرأسمالية واقتصاد السوق، والديمقراطية على طبقة الأوليغارشية العقارية وعلى الشيوعية وتشكيلاتها الاشتراكية.
ما حصل في الواقع هو تحوّل الرأسمالية الإنتاجية إلى رأس مالية ريعية مالية تتحكّم فيها قطاعات المال والعقار والتأمين. والنيوليبرالية كانت الرافعة العقائدية لهذا التحوّل في بنية تستغلّ قوّة العمل لحساب صاحب رأس المال من خلال إنتاج السلع الصناعية والزراعية. المفارقة أن الرأسمالية المالية لا تنتج شيئاً، ولا تستغلّ العمل فحسب، بل المجتمع كلّه مستبدل الأوليغارشية المالية العقارية التأمينية، بأوليغارشية ملّاكي العقارات، ولاحقاً بالصناعيين. وهنا لا يجب أن نغفل الأوليغارشية الزراعية الممثّلة بمؤسسات مثل كارغيل ومونسنتي وآرثر دانيلز التي تحتكر تجارة الحبوب والمواد الغذائية على الصعيد العالمي. هذه المؤسسات الثلاث اشترت في ذروة الأزمة الأوكرانية 17 مليون هكتار من الأراضي الزراعية في أوكرانيا، أي ما يوازي 28% من مساحة البلد. بمعنى أوضح، إن التجويع وتحديد عدد السكّان هما سلاح الفناء الشامل لهذه المنظومة. وهذا نموذج استمرّ حتى بداية الألفية الثالثة، عندما اعتقدت النخب الحاكمة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن بإمكانها فرض سيطرتها بالقوّة العسكرية على الدول. فاحتلال أفغانستان بحجّة محاربة الإرهاب الإسلامي الذي أوجدته المخابرات البريطانية والأميركية كما اعترف مسؤولون في هاتين الدولتين كان لمحاصرة الجمهورية الإسلامية في إيران من جهة، ومحاصرة الصين من جهة أخرى وعينها على روسيا وثرواتها. لكنّ هذه النخب لم تقرأ التحوّلات التي حصلت في العالم. فالمقاومة للهيمنة الغربية سدّدت ضربات قاصمة في المشرق العربي في مقاومة العراق للاحتلال الأميركي، ولطرد الاحتلال الصهيوني من لبنان ثم إلحاق الهزيمة به في عام 2006، والمقاومة في فلسطين، والصمود الأسطوري لسوريا في الهجوم الكوني عليها، ومقاومة العدوان العربي والدولي على اليمن. فهذا الصمود وهذه المقاومة للغرب أتاحا الفرصة والمنصة لروسيا والجمهورية الإسلامية لتثبيت قوتهما. كما أنه في شرق آسيا استطاعت الصين أن تخرج من تقوقعها السياسي والعسكري للتماهي مع قدراتها الاقتصادية.
في سنة 1990 كان إنتاج مجموعة الدول الغربية، أي الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان، يمثل ما يوازي 67% من الناتج العالمي. أما في سنة 2020 فلم يعد إنتاج مجموعة السبع يمثّل أكثر من 30%، والتوقعات تفيد بأنه في عام 2023 ستنخفض النسبة إلى أقل من 28%. هذا التحوّل في مكانة الإنتاج في الغرب يعكس تراجعاً استراتيجياً غير قابل للتغيير. وتراجع أهمية الاقتصاد الغربي يعود إلى عاملين أساسيين: فكر اقتصادي رديء، وصعود دول وشعوب الشرق على قاعدة فكر اقتصادي مختلف.
هذا الإخفاق الغربي لم يأت صدفة، بل كان محصّلة إخفاقات داخلية لهذه الدول. فالنظام السياسي في الولايات المتحدة على سبيل المثال، لم يستطع التكيّف مع التحوّلات في بنيتها السكّانية والاقتصادية ولا الحفاظ على مصادر القوّة. فقد انخفضت نسبة الولادة للسكان البيض إلى 1.2، أي دون المعدّل الأدنى للحفاظ على الوجود البالغ 2.1، ما اضطر إلى فتح باب الهجرة الوافدة. فتراجعت نسبة العرق الأبيض لصالح أصحاب البشرة السمراء والصفراء والسوداء، من 63.8% في عام 2010 إلى 59.3% في عام 2020، وتوقعات بأن تصبح دون الـ50% قبل منتصف القرن. نتج من ذلك تنافر واحتكاكات بين مكوّنات المجتمع. وما حصل في الولايات المتحدة يحصل أيضاً في أوروبا الغربية،حيث الهجرة الأفريقية والعربية والمسلمة والآسيوية يضاف إليها هجرة من دول أوروبا الشرقية إلى أوروبا الغربية، ما خلق احتكاكاً بين مكوّنات المجتمع. ورغم محاولات الليبراليين الإيحاء بأن التنوّع في البنية السكّانية مصدر إثراء للمجتمع، إلاّ أن الثقافة الغربية لا تقبل التنوّع. فعلى سبيل المثال، اعتبر الكاتب سامويل هنتنغتون، صاحب نظرية صراع الحضارات بين الغرب والشرق، أن الخطر الذي يهدّد الولايات المتحدة هو فقدان هويتها الإنغلوساكسونية البيضاء البروتستانتية بسبب الهجرة الوافدة من أميركا اللاتينية وآسيا.
في عام 2021 بلغ دين الدولة والشركات والأفراد في أميركا 67 تريليون دولار، من بينها دين حكومي بقيمة 30 مليار دولار، مقابل ناتج داخلي لا يتجاوز 29 ملياراً


وإلى جانب ذلك، أهملت الولايات المتحدة البنى التحتية التي كانت من أهم مصادر قوّتها. تلخّص أريانا هفنغتون مؤسّسة موقع «هفنغتون بوسط» في مؤلّف أصدرته في عام 2010 بعنوان «الولايات المتحدة دولة من العالم الثالث: كيف تخلّت الطبقة السياسية عن الطبقة الوسطى وخانت الحلم الأميركي»، التحوّلات في المشهد السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة. فتشير إلى أن تراجع البنى التحتية أفقد أميركا القدرة على التنافس والحفاظ على التفوّق. غرور الطبقة الحاكمة جعلها تعتبر أن التفوّق الأميركي أبديّ بسبب «استثنائية» الولايات المتحدة و«قدرها المتجلّي». هذه الرؤية التوراتية للولايات المتحدة ساهمت في تعميق الأزمة والانفصام بين الخيال والواقع. أما البنى التحتية في أوروبا الغربية واليابان، فهي أفضل بكثير لأنهما ما زالتا في مرحلة التصنيع. وفي أوروبا، تسعى أحزاب الخضر إلى تفكيك البنية الصناعية عبر التخلّي عن الوقود الحفري واستبداله بمصادر «نظيفة ومتجدّدة» لم تثبت جدواها الاقتصادية بعد. التخلّي عن التصنيع هو الخط السريع للتراجع الاقتصادي والفقر، لذا تنسجم سياسة خفض عدد السكّان مع الحرمان من الخدمات الطبية. فالصحة والتعليم والإسكان أصبحت امتيازات وليس حقوقاً للناس في الدولة النيوليبرالية المحكومة بالملتوثية الجديدة والداروينية الاقتصادية. وبالمثل، فإن الأزمة الاقتصادية والسياسية في لبنان الذي اعتمد النموذج الغربي في النيوليبرالية أوصلت اللبنانيين الى اعتبار الصحة والتربية والإسكان امتيازات بعيدة المنال والفقر أصبح سيّد الموقف. النتيجة الأولى هي الهجرة المكثّفة من لبنان التي وصلت إلى أكثر من 400 ألف لبناني خلال السنوات الثلاث الماضية.
أيضاً هناك توطين الصناعة خارج الولايات المتحدة. الهدف كان في الاستفادة من عمالة أرخص وبيئة تنظيمية أقلّ صرامة لجهة تطبيق القوانين والضوابط. فضلاً عن اعتبار الإنتاج الصناعي غير ضروري مقارنة مع السيطرة على المال وشرايينه. لكنّ الأزمة الأوكرانية أسقطت هذا الوهم وأظهرت أن الثروة الحقيقية هي في الإنتاج وتملّك الموارد الطبيعية والمعادن والطاقة إضافة إلى العقل الإبداعي الذي يصنع الثورة التكنولوجية. وهذا العقل ليس حكراً على الغرب بل موجود أيضاً في عالم الجنوب. المهم أن التخلّي عن التصنيع أدخل أكثر من 45 مليون أميركي تحت خط الفقر، أي 15% من السكان، بينما إفقار الطبقة الوسطى أصبح يطاول أكثر من 50% من السكّان. في المقابل، يزداد تركّز الثروة بيد أقلّية الـ1% التي تملك 75% من ثروات الولايات المتحدة.
الثورات الثقافية في الغرب أدّت إلى ضرب منظومة القيم التي تحافظ على تماسك المجتمعات. فالإباحة أصبحت «حرّية» و«إبداعاً»، والأسرة أصبحت موروثاً اجتماعياً بائداً، والدين أخطر من كونه أفيون الشعوب. لذا، جنح الغرب نحو ثقافة إشباع الغرائز والتحلّل من الضوابط الأخلاقية والاجتماعية. والثقافة الغربية تزعم أنها ثقافة الحياة والحقوق والمساواة والمساءلة والمحاسبة، لكنها بالفعل ثقافة مبنية على العنف والوحشية والتأليه الظاهر في الأفلام. وهي ثقافة أنتجت الإبادة الجماعية للشعوب، ولا سيما في القارة الأميركية وبعض الأقطار في أفريقيا. فاحتلال الجزائر من قبل الفرنسيين لم يخلُ من إبادة جماعية للعديد من المقاطعات وكذلك الاحتلال البريطاني لمقاطعات في الهند وباكستان وبلجيكا للكونغو. وأنتجت هذه الثقافة محاكم التفتيش التي ألغت الأديان الأخرى كالإسلام واليهودية وحتى بعض المذاهب المسيحية التي لا تتوافق مع الكنيسة الكاثوليكية. هذه الوحشية جعلت جورج قرم يتساءل: كيف يمكن لأوروبا أن تنتج سوياً موزارت وهتلر في آن واحد؟ ففي القرن العشرين أنتجت الثقافة الغربية حربين عالميتين خلال ربع قرن من الزمن، وأدّتا إلى هلاك أكثر من 81 مليوناً.
أعباء الدين العام والخاص تتزايد على الدولة والقطاع الخاص. ففي عام 2021 بلغ الدين العام في الولايات المتحدة أكثر من 30 مليار دولار بينما الناتج الداخلي لم يتجاوز 29 ملياراً، وذلك قبل الانكماش الجاري هذه السنة. أما الدين الخاص الذي يشمل الشركات والأسر والأفراد، فهو يزيد عن 37 تريليون دولار. لذا، إجمالي الدين العام والخاص يتجاوز 67 تريليون دولار من دون تقدير الخسائر في المشتقات المالية التي قد تبلغ أكثر من 4 آلاف تريليون دولار. هذه أرقام فلكية يصعب استيعابها، لكنها تنطوي على أمر واضح: اقتصاد الولايات المتحدة مثقَل بالدين وليس في الأفق ما يوحي بأن النخب الحاكمة معنية بمعالجة ذلك. فالدين يعيق النمو والتنمية الحقيقية، حيث خدمة الدين وتسديده تستنزف موارد الدولة والقطاع الخاص والأسر. ويزداد الأمر سوءاً مع استمرار الدولة بطباعة الدولار لتسديد الدين العام من دون الاستناد إلى أصول واضحة أو نشاط اقتصادي تستطيع الإدارة الاعتماد على تدفّق الدخل منه. ما تقوله الولايات المتحدة، اقبلوا عملتي التي لا قيمة لها إلا الحبر والورق وأعطوني سلعكم وبضائعكم. هي تعيش على مُنتجات الآخرين ولا تدفع قيمة هذه السلع.
في هذا السياق يعرض الباحث دافيد غرايبر في مؤلف له صدر سنة 2011 بعنوان «الدين: الخمسة آلاف سنة الأولى» أن الحضارات الشرقية من سومرية إلى أشورية إلى مصرية كانت تشطب الدين العام بشكل منتظم نسبياً، كما كان يتم توزيع الأرض على المزارعين لتحسين أوضاع الفقراء. فالحكّام في المجتمعات الشرقية القديمة كانوا يسعون دائماً إلى تجنّب الاستقطاب الاجتماعي على قاعدة التميّز بالثروة. ويضيف الاقتصادي مايكل هدسون معلّقاً على كلام غرايبر، أنه لو استطاعت مارغريت تاتشر أو ميلتون فريدمان القفز في الزمن إلى العهد السومري أو الأشوري أو الفارسي أو الفرعوني، لما تقدّمت الحضارات بسبب الاستقطاب داخل المجتمعات من جرّاء فكرهما وسياستهما المدمّرة.
الفكر الاقتصادي الغربي الذي يوصف بالاقتصاد الوضعي، لم يكن عبر التاريخ «علماً» قائماً بذاته بل كان خطاباً تبريرياً لأجندة سياسية. والغرب تراجع في الإنتاج العيني، وحوّل اقتصاده إلى إنتاج ثروة افتراضية عبر تحريف مهمة الدولة المعاصرة من حماية ملكية وسائل الإنتاج والعلاقات الاجتماعية الناتجة عن ذلك، إلى أداة تحمي مصالح الأوليغارشية الحاكمة. هنا يبرز دور الدولة الأمنية التي يتكلّم عنها الكاتب وليم انغلهارت. والإنتاج الصناعي أصبح خارج الغرب في آسيا وأميركا اللاتينية وغداً قد يكون أيضاً في أفريقيا التي أهملها الغرب طيلة حقبة استعماره لها. فهي قارة الموارد الخام الطبيعية والمعادن وشعوبها لا قيمة لها وفقاً للخطاب الغربي الذي يتفوّه به أمثال يوفال هراري مستشار كلوس شواب مؤسّس المنتدى الاقتصادي العالمي المعروف بمنتدى دافوس.

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي