في لعبة سياسية أضحت مكشوفة المعالم، تتبادل فيها المصارف والصيارفة الأدوار مع حاكم المصرف المركزي، يجري تأجيج سوق القَطع على وَقعِ إشاعاتٍ ومنصاتٍ وهمية، ثم إخماده بتعاميم أو مجرّد تصريحات دونكيشوتية تَرفع سعر الدولار لمرحلةٍ ثم تُهبِطه بسِحر ساحر. في النتيجة تصبح الكرة في ملعب كبار التُجار والمُتاجرين بالأرواح الذين يمعنون في رفع أسعار السلع توازياً مع موَجة صعود الدولار، من دون خَفضِها عند تَراجُعِهِ. كُلُّ ذلك يحصل على مرأى وصَمت أحزاب سياسية وكُتَلٍ نيابية و«قوى تغييرية» عن انتهاكات باتت بحُكم الجزائية. وهي انتهاكات بحق مواطن أُقصِيَت عنه قَصراً أمواله وهُدِرَت طاقاته ومداخيله، وأضحى دُميَةً، مَطيَّةَ أصابع خَفيَّة، تدير من خَلف سِتار أجهزة ومنظمات ووفود دولية، أجندات دمج وتوطين وتقسيم وتقاسُمَ مَصالحٍ في ثروةٍ نفطية.فما لم تنجح في تحقيقه «هندسة تَعَدُّد أسعار القطع» من هيركات على الودائع، لمَحو قيمتها الدفترية كلياً من حسابات المصارف، نَجَحَت في إنجازه «هندسة التلاعب بأسعار الصرف» من هيركات على المداخيل، كوسيلة لإعادة رسملة المصارف من المُدَّخَرات البَيتيَة التي كانت خارج مَنالها، ومن دخل المواطنين ونشاطهم. ويأتي ذلك فيما يَتَعَذَّر على هذه المصارف، حتى الساعة، إعادة بعض ما حَوَّلَته إلى الخارج قبل 2019 من أرباحٍ وزّعتها على مساهميها من الودائع.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هناك مؤشرات مُقلِقَة، أظهرتها دراسة ميدانية قمت بها أخيراً، وهي تَعكِسُ تحوّلاتٍ هيكلية في النسيج الاجتماعي وتغيّرات في سلوك الأسر بفِعل ما أحدثه تجميد وقضم الودائع والتلاعب بالعملة الوطنية من تجريدِ الأسر من رؤوس أموالها ومداخيلها على حدٍ سواء. فبحسب نتائج الدراسة، يتبيّن أن غالبية الأسر يُعيلها واحد أو اثنين من أفرادها، وأنّ نحو ثلثي الأسر تَتَّكِل على نوع عمل واحد، ونحو الربع يتّكل على نَوعَي عمل، ونحو 10% من الأسر لا أحد يعمل لديها أو هو على التقاعد، فضلاً عن أن 5% منها تَتَّكِل على عمل مُتَقَطّع لأحد أفرادها. ويعتاش ما يقرب من نصف الأسر من القطاع الخاص ونحو الربع من القطاع العام، فيما تُشكل المهن الحرّة (7%) وأرباب العمل (4%) مأمناً لشريحة متواضعة من الأسر في لبنان.
هكذا تُظهر العيّنة أن 75% من الأسر لديها مصدر واحد للدخل، ونحو 20% منها لديهم مصدرين، و5% منها لديها ثلاثة مصادر للدخل أو أكثر. وتأتي المعاشات والأجور في رأس قائمة مصادر الدخل التي ترتكز عليها الأسر، تليها عائدات المهن الحرة والمعاش التقاعدي، وعائدات المحاصيل الزراعية. وفي حين تَتَنَعَّم فقط 3% من الأسر بكامل دخلها بالدولار، تفتقد 63% من الأسر للدولار في دخلها بشكل نهائي، ولا تتعدى حصّة الدولار 10% من دخل ما يقرب من 15% من الأسر.
بهذه الحيثيات والوقائع واجهت الأسر اللبنانية الأزمة الراهنة، وقد فَعَلَت فِعلَها في إحداث تغيّرات هيكلية في النسيج الاجتماعي في لبنان. ففي حين كانت تُشَكِل شريحة الدخل الوسطي أكثر من نصف الأسر قبل عام 2019، أضحى تَعدادها يَقُل عن 10% من مجموع الأسر. وبعدما كانت تتكون شريحة الدخل المرتفع من نحو 13% من الأسر، أضحت شبه معدومة (1%). وبنتيجة هذه المتغيرات، ارتفعت حصّة شريحتَي الدخل المتدنّي والاكتفاء الذاتي من نحو الثلث إلى ما يقرب من ثلثي الأسر، مُسَجِّلَةً ارتفاعاً بنسبة 110%. كما شهدت شريحة الفقر المدقع ارتفاعاً دراماتيكياً بنسبة 125% من 2% قبل عام 2019 إلى 27% من الأسر اللبنانية، لتُشَكِل بذلك شرائح الدخل المتدني والاكتفاء والفقر المدقع 90% من الأسر اللبنانية، في حين لا تتخطى شرائح الدخل الوسطي والمرتفع والثراء مُجتَمِعَةً عَتَبَة الـ10% من مجموع الأسر.
وقد جاء ذلك نتيجة الانخفاض الحاد في القيمة الفعلية للدخل الذي شهدته ثلاثة أرباع الأسر والناجم عن الارتفاع الدراماتيكي لسعر الصرف وهبوط قيمة الليرة اللبنانية، علماً بأن شريحة الأسر الثرية لم تلحظ أي تَدَنٍ بدخلها الفعلي على الإطلاق. فأضحت شريحة الدخل الوسطي المصاب الأول، تليها شريحة الدخل المرتفع.


والمتغيرات هذه في قيمة الدخل الفعلي للأسر فَرَضَت واقعاً جديداً بتدني القدرة الشرائية للأسر اللبنانية، انعكس على حجم وكيفية وأوجه إنفاقها. وقد تجلى ذلك بانخفاض حاد في إنفاق نحو 70% من الأسر، والمُصاب الأول هي شريحة الدخل الوسطي، تليها شرائح الدخل الدنيا وخاصةً ذوي الفقر المدقع، ونحو 80% من الأسر التي لا دخل لها بالدولار. في المقابل، 8% من الأسر سَجَلَت تحسّناً في إنفاقها خلال الأزمة، و2% لا تأثير للأزمة على إنفاقها.
وقد تنوّعت حدّة الإصابة بحسب أوجه الإنفاق. فالانخفاض الحادّ طال الإنفاق على الملبس والنشاطات الترفيهية لدى نحو 75% من الأسر، يليه التنقل والمواصلات (58% من الأسر). وقد أصيب كلٌ من باقي بنود الإنفاق بانخفاض حاد لدى نحو 50% من الأسر، خاصةً التي لها علاقة بالتدفئة، والطبابة والأدوية، وكذلك المأكل والمشرب، والتعليم، والاتصالات. الأمر الذي انعكس تدهوراً في الوضع المعيشي لدى 73% من الأسر وإلى تأزّم لافت لدى 20% من الأسر في جميع المناطق اللبنانية، مع بعض التفاوت الملحوظ في ما بينها. في المقابل، لم تَلحَظ 3% من الأسر أي تأثر لأوضاعها المعيشية. كما أن 4% من الأسر سَجَلَت تَحَسُّناً بسيطاً في وضعها المعيشي.
وقد وَضَعَت نحو 75% من الأسر هبوط القيمة الشرائية لليرة اللبنانية وما رافقه من ارتفاع في أسعار السلع المستوردة (تُشَكِل هذه السلع ما يزيد عن 85% من سلة الاستهلاك السلعي في لبنان) في رأس قائمة دواعي التدهور الحادّ والكلّي في قدرتها الشرائية، يليهما مباشرةً ارتفاع أسعار البنزين والمحروقات، وأسعار السلع المحلية، وانخفاض القيمة الفعلية للأجور والمداخيل، وارتفاع كلفة الطبابة والأدوية، بالإضافة إلى ارتفاع كلفة التعليم والقيود المصرفية على السحوبات. في المقابل، نحو 10% من الأسر لم ترَ في هذه العوامل تأثيراً على الإطلاق أو ترى فيها تأثيراً ضعيفاً على قدرتها الشرائية.
أما عن ارتفاع الأسعار، فترى غالبية ساحقة من الأسر أنه ناجم بشكل كبير أو كلي عن ارتفاع سعر الصرف، واحتكار السلع، وعن رفع الدعم عن السلع الأساسية، وترقّب ارتفاع الدولار الجمركي وكذلك عن التهافت على السلع. وفي محاولةٍ لاستيعاب صدمة ارتفاع الأسعار، عمدت الأسر إلى تغيير سلوكها الاستهلاكي بالتخلّي عن شؤون معيشية وحياتية والحفاظ قدر الإمكان على الأساسيات ضمن سُلَّم أولويات. فحاول بعضها عدم اتخاذ خيارات دراماتيكية بوقف نهائي وكلي لنشاطات أو عادات استهلاكية، إلا أن البعض الآخر قام باعتماد خطوات جذرية أو تغيير حاد في تصرفاته الاستهلاكية، لجهة وقف كلّي لاستعمال الكماليات أو النشاطات الترفيهية، والتخلّي الكلّي عن السلع المعهودة الاستعمال أو عن الماركات، وبخفض كلّي للكميات من الضروريات، والتَحَوُّل كُلياً من السلع الأجنبية إلى السلع المحلية، أو خَفض النوعية والجودة، أو إلى التصنيع المنزلي.
لا تتعدى حصّة الدولار 10% من دخل ما يقرب من 15% من الأسر


إلى جانب هذه التغيرات في التصرفات الاستهلاكية، حاولت الأسر الاعتماد على مقوّمات سَمَحَت لها بالصمود في وجه أعتى أزمة مَرَّت بها البلاد، إذ حَطَّت أوزارها على رأس مال الأسر ومداخيلها على حدٍ سواء. فشَكَّلَت السحوبات من الادّخارات على قلتها، إلى جانب الاستدانة وبعض تصحيح الأجور، أهم عناصر مواجهة الأزمة وتداعياتها، إلى جانب تعاضد المقربين والتحويلات الخارجية، إذ إن نحو ثلاثة أرباع الأسر وأكثر، لم تَطَلها أيّ مساعدات ولا بأي شكل من الأشكال. فالمساعدات على أنواعها (جمعيات، دولة، أحزاب، طائفة، أرباب عمل) لم تَطَل بشكل أساسي سوى نحو 5% من الأسر.
وقد أضحى الاعتماد المُفرِط والدائم على قُدرَة التَحَمُلِ لدى الأسر اللبنانية في مواجهة الأوضاع العصيبة، سواء بقدرة التأقلم واستيعاب الصدمات التي تَحَلَّت بها أم بما كانت تَختَزِنُهُ من مُقومات اجتماعية ومادية بِحُكم المُجازفة، نتيجة المتغيرات الهيكلية في شرائح الدخل، خاصةً مع نضوب شريحتَي الدخل المُتَوَسِط والمُرتَفِع وثبات حال الفقر والعَوَز لدى فئات اجتماعية كبيرة كانت تُشَكِل شبكةَ أمان مجتمعي في المراحل الصعبة.

* خبير اقتصادي