أول استنتاج يمكن الخروج به عند معاينة الرسم البياني لسعر صرف الدولار في السوق الحرّة، من مطلع 2020 ولغاية أمس الأحد، أنه يرتفع على شكل موجات تمرّ بينها فترات استقرار هامشية، إنما المنحى العام هو تصاعدي. وهو بهذا الاتجاه، لأنه رغم كل ما يُرسم لتوزيع الخسائر، فلم يظهر علاج حاسم للأزمة ولا اتفاق على توزيع الخسائر. بل على العكس يظهر أن النقاش في توزيع الخسائر هو الدوّامة التي علق فيها منذ أكثر من سنتين ونصف سنة، فيما هناك طرف واحد يقود عملية التوزيع بفعل الأمر الواقع. ومن أبرز أدوات هذه العملية بقيادة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، هو سعر الصرف. فالرجل، يعمل منذ اليوم الأول ضمن مخطّط تذويب الودائع بالتضخّم وطباعة الليرات. وهذا الأمر يتطلب تعددية في أسعار الصرف ما زالت قائمة إلى اليوم رغم أن هوامش التسعير اختلفت كثيراً. شيك الدولار يتعرض لحسم بنسبة 88% مقابل النقد بالدولار، وشيك الليرة يتعرض لحسم بنسبة 38% مقابل النقد بالليرة. أسعار السلع المدعومة، ما زالت متعدّدة الأسعار بين سعر الدعم وسعر «صيرفة». البنزين مثلاً، منه 85% على سعر «صيرفة» و15% على سعر السوق الحرّة، فضلاً عن فئات عدّة من الدواء المدعوم. القمح لديه سعر أيضاً...
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في الواقع، لقد حاول معدّو خطّة التعافي الأولى أيام رئيس الحكومة حسان دياب، توزيع الخسائر، لكن نسف الأمر برمّته على يد لجنة المال والموازنة ونوابها الذين يمثّلون كل الكتل النيابية. كذلك، أعدّت حكومة نجيب ميقاتي خطّة بقيادة نائب الرئيس سعادة الشامي أسمتها «خطّة نهوض القطاع المالي»، لكن أقصى ما بلغته هو مرحلة «اتفاق على مستوى الموظفين» مع صندوق النقد الدولي، ثم انتهى عمر هذه الحكومة لينطلق صراع سياسي عميق بين المكوّنات السياسية يتقاطع مع صراعات إقليمية ودولية محتدمة في الشرق الأوسط وأوروبا.
وسط كل هذه الخطط والأزمات المحيطة، ما زالت خطّة سلامة سائدة. وهي خطّة تعتمد على تحفيز سعر الصرف نزولاً كلما استدعت الحاجة. فالعوامل البنيوية في الاقتصاد، تدفع سعر الدولار إلى الارتفاع على الدوام والتي يمكن الاستدلال عليها من خلال عجز الحساب الجاري المتوقّع أن يبلغ بحسب البنك الدولي 4 مليارات دولار في عام 2021، ومقدّر بأن يكون 2.5 مليار دولار في عام 2022. طالما أن هذا العجز موجود، فهذا يعني أن الأسواق في لبنان ينقصها 2.5 مليار دولار لتغطية الطلب المحلي في عام 2022. وبالتالي فإن الطلب على الدولار هو أكبر بكثير من كتلة الدولارات المتدفّقة إلى لبنان. ويضاف إلى هذه العوامل البنيوية في الاقتصاد، عوامل سياسية - نفسية تدفعه في الاتجاه التصاعدي نفسه، وهي تتشابك مع عوامل نفسية لدى المستهلكين الذين لم يروا أي أفق للأمل بعد. لذا، توقعاتهم هي في الارتفاع المتواصل وهي توقعات تتحقق من خلال ما تخلقه هذه العوامل مجتمعة من موجات ارتفاع في سعر الدولار. في المقابل، يحاول مصرف لبنان التأثير في هذه الموجات عبر ضخّ الدولارات وفق تكتيك واضح يقضي بضخّ الدولارات بوفرة، ثم تقنينها لاحقاً. وهذا التكتيك يعني أن إعادة تشكّل الموجة مجدداً هي أمر حتمي في ظل استمرار المحفّزات نفسها. إنما الفرق بين كل موجة وأخرى التي تليها، أن حدّة الموجة تزداد والمسافة الزمنية بينهما تتقلّص رغم كل محاولات التأثير عبر محفّزات مصرف لبنان. طبعاً هناك نقاش من نوع مختلف في الجهة المستفيدة من هذه التحفيزات، والأثر السلبي المترتّب على عملية توزيع الخسائر بهذه الطريقة الالتفافية، والأعباء التي تتحمّلها الأسر بسبب تضخّم الأسعار في بلد تطغى فيه الاحتكارات التجارية على النظام الاقتصادي...
المقلق هو أن موجات سعر الصرف لم تُظهر تأثّراً واضحاً بما يمكن أن تقود إليه تحفيزات أو «سعدنات» مصرف لبنان في تذويب سيولته بالعملات الأجنبية التي يشار إليها بـ: الاحتياطات بالعملات الأجنبية. ماذا لو أصبحت الاحتياطات صفراً؟ عندها لن يكون الأمر متعلقاً بالمسافة الزمنية بين مسافات الاستقرار بين الموجات، بل بالمدّة التي ستستغرقها الموجات وحدّتها. والمقلق أن هذا العامل يقترب تدريجاً، وأنه لن يكون أمام الجميع سوى البحث في تسييل الذهب من أجل تأمين استيراد الحاجات الأساسية.