يكثر الحديث اليوم عن حاجة روسيا والصين لتأمين نظام أو أنظمة بديلة عن الـ«سويفت»، تحسّباً لمسار صدام قد يقع مع الولايات المتحدة، يؤدّي إلى إخراجهما، أو أي منهما، من نظام الـ«سويفت»، كما حدث مع روسيا أخيراً. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فنظام الـ«سويفت» هو مجرّد نظام رسائل، دوره نقل أوامر التحويلات المالية بالدولار بين الحسابات. وتستخدمه أميركا في عقوباتها لمنع الدول التي تريد منعها - مثل روسيا اليوم وإيران سابقاً - من استخدام الدولار في معاملاتها التجارية. الدولار هو السلاح الحقيقي الذي تملكه أميركا بوجه الدول التي تتحدّاها، وهيمنة الدولار على النظام المالي العالمي هو ما يجعل هذا السلاح فتاكاً.
أوسفال - كوبا


مسار الهيمنة
بوادر صعود الاقتصاد الأميركي كاقتصاد مهيمن، بدأت خلال الحرب العالمية الأولى. فمع اشتداد الحرب وزيادة الخسائر الماديّة والبشريّة، ازدادت الحاجة للمواد الأوّلية والتصنيع لتعويض الخسائر. كانت أميركا، وهي البلد الكبير الوحيد الذي لم يتضرّر من الحرب، المصدر الوحيد لهذه الحاجات. خصوصاً أنّ مواردها من المواد الأولية كانت قادرة على تغطية حاجات الدول التي دمّرتها الحرب. كما أنّ قدراتها الصناعية كانت كافية لزيادة الإنتاج بشكل يلبّي زيادة الطلب. لذا، ازدادت الحاجة إلى الاستيراد من أميركا، ما أدّى ذلك إلى مراكمة ديون هائلة على الدول الأوروبية واليابان لحساب الولايات المتحدة. وهذه الأخيرة رفضت التسامح مع الدول المدينة رغم أنّ هذه الديون كانت غير قابلة للسّداد. ففي نهاية المطاف، أدّى ذلك إلى تخلّف الدول المدينة عن السّداد ما جعل احتكاك أميركا المالي مع العالم غير متماسك لأنها كانت دائناً عالمياً مصدّراً لرأس المال، وفي الوقت نفسه تملك فائضاً تجارياً كمصدّر للبضائع والسلع. وقد أثبتت هذه التجربة فشلها مع فقدان السيطرة على ديون الدول التي تخلّفت في نهاية الأمر عن دفعها.

بالأرقام

59%
هي حصّة الدولار من الاحتياطات العالمية بالعملات الأجنبية التي انخفضت من نسبة 70% مقارنة مع بداية الألفية
7 تريليون دولار
هو إجمالي مطلوبات المصارف في العالم بالدولار الأميركي مقارنة مع 500 مليار دولار مطلوبات المصارف باليوان الصيني


تأسيساً على هذه المرحلة، نشأ بعد الحرب العالمية الثانية عام 1944، نظام «بريتون - وودز» الذي أرسى الدولار كعملة احتياط متداولة عالمياً ترتبط فيها كلّ عملات العالم فيما هو مربوط بالذهب. هكذا أصبح الدولار عملة مهيمنة (يُشار إلى أنّ تطبيق هذا النظام اكتمل في نهاية الخمسينيات بعد تعافي اقتصادات أوروبا واليابان). وخلال حقبة الستينيات تدفّقت أموال الصناديق الاستثمارية الأميركية الخاصة، إلى الاستثمار في الأسواق الخارجية، ما أدّى إلى ارتفاع كتلة الدولار الموجودة في الخارج. عندها أصبح العمل بنظام «بريتون - وودز» غير مستدام بالنسبة للولايات المتحدة. فأساس النظام كان قائماً على أنّ لدى الولايات المتحدة احتياطاً كافياً من الذهب، إلا أنّه بحلول عام 1970، بلغ حجم كتلة الدولار خارج أميركا نحو 24 مليار دولار مقابل محفظة أميركية من الذهب بقيمة توازي 11 مليار دولار. وفي عام 1971 أعلن الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، فكّ ارتباط الدولار بالذهب، لينتقل العالم إلى نموذج النظام النقدي المعاصر.
يقول المؤرّخ الاقتصادي آدم توز، إنّ التحرّر من نظام «بريتون - وودز» كانت نتيجته ازدهار الأسواق المالية، التي تحرّرت من «عوائق» ارتباطات أسعار الصرف بالدولار. هكذا أصبحت مصارف «وول ستريت» هي العامل الدافع للنظام النقدي. فالعمق المالي الذي أمّنته الأسواق المالية الأميركية، بأدواتها المالية المعقّدة، وحجم التداول الهائل فيها، هو ما حدّد شكل النظام النقدي الجديد. وقد سهّل صعود هذه الأسواق الماليّة، استدانة الدول بالدولار لتمويل استيراد المقوّمة بالعملة الأميركية وأهمها النفط. ربط أسعار النفط بالدولار، لعب دوراً كبيراً في هيمنة العملة الخضراء على الأسواق العالمية.
وحتّى في ظلّ وجود الاتحاد السوفياتي، كانت هيمنة الدولار على الصعيد العالمي شبه مطلقة. فالاتحاد السوفياتي السابق كان يعتمد على الدولار بشكل كبير، وبالذات من أجل استيراد الحبوب. وكان يبيع نفطه بالدولار، ويغطي عجز ميزان مدفوعاته بالاستدانة بالدولار. بحسب آدم توز، فإنه في نهاية الثمانينيات كانت ديون الكتلة الشيوعية بالدولار تساوي نحو 112 مليار دولار. ومع سقوط الكتلة الشرقية، استمرّ مسار الهيمنة المطلقة للدولار، حتى وقعت الأزمة المالية العالمية ابتداء من أميركا عام 2008، فكان لها انعكاس سلبي على الثقة بالدولار وعلى الثقة بقيادة الولايات المتحدة للنظام المالي العالمي.

بداية سقوط الدولار: أمر شكلي أم حقيقة؟
منذ بداية الألفية الحالية، انخفضت حصّة الدولار من الاحتياطات العالمية بشكل كبير، وهو أمر تسارع بعد أزمة عام 2008. لكن هذا الانخفاض لا يعني بالضرورة أن هيمنة الدولار تتلاشى، لأنّ تنويع الاحتياطات الذي حصل خلال تلك الفترة، لا يشمل عملات الدول «المعادية» للدولار. بل كان بجزئه الأكبر، متّجهاً نحو عملات تدور في فلك الحلف المتحكّم بالنظام المالي العالمي. وشملت هذه العملات الكرونا السويدي، والدولارَين الكندي والأسترالي، والوُن الكوري، الاستثناء الوحيد كان اليوان الصيني الذي يمثّل نحو 25% فقط من احتياطات «العملات غير التقليدية». في هذا السّياق، تلعب هذه العملات، باستثناء اليوان، دوراً يماثل دور الدولار في مفاعيل عملية الهيمنة. فإذا قرّرت أميركا فرض العقوبات على دولة ما، تحذو دول حذو القرارات الأميركية، لأنها، هي وعملاتها، تحت رحمة النظام المالي العالمي الذي تتسيّده الولايات المتحدة.
من المؤكّد أنّ نظام العملة الواحدة هو أقل كلفة على العملية التجاريّة بين الدول. إذ يخفّف من الحاجة إلى تنسيق سلّات العملات الاحتياطية، وتفادي مخاطر التعرّض إلى خسائر بسبب تذبذب أسعار صرف العملات المختلفة.
يقول الاقتصادي باري أيشنغرين في كتابه «كيف تعمل العملات العالمية: الماضي والحاضر والمستقبل»، إنّ اعتماد عملة واحدة يعني عرض أسعار الصادرات من مختلف الدول بنفس العملة، فيسهّل على المتعاملين المقارنة بين أسعار السلع. ويسهّل على المنتِج تسعير إنتاجه، إذ يُسعّر كل استيراده لمُدخلات الإنتاج بالعملة نفسها، ما يحميه من التقلّبات في أسعار الصرف المتعددة.
لكنّ تحويل الدولار إلى سلاح دمار شامل للاقتصادات في حالات النزاع شكّل دافعاً للدول لتُعيد تقييم المقارنة بين الأكلاف والمخاطر، بين خسائر اعتماد عملات متعدّدة من جهة، وبين تحمّل مخاطر الإصابة بخسائر هائلة بقرار واحد من الولايات المتحدة من جهة أخرى. والحدث الذي يُثير هذه المخاوف هو تجميد احتياطات روسيا التي خسرت نحو 300 مليار دولار من احتياطاتها بعد تجميد أرصدة مصرفها المركزي في الدول الغربية. وقد تكون الخطوات التي اتخذتها روسيا، مثل طلب استلام دفعات النفط والغاز من الدول «غير الصديقة» بالروبل، أحد بوادر كسر هيبة الدولار. بالإضافة إلى إعلان روسيا تثبيت سعر بيع وشراء الذهب على 5000 روبل للغرام، وهو عملياً يعني تثبيت سعر الروبل قياساً للذهب، ما يمثّل سابقة لأيّ عملة منذ قيام نظام «بريتون - وودز» حين رُبطت كلّ العملات بالدولار.

كسر الهيمنة عبر الأحلاف التجارية
في الوقت الحالي لا يوجد أي اقتصاد لديه العمق المالي الكافي لاستبدال الولايات المتحدة كقائد ومصدر للسيولة العالمية. لذلك يصعب على عملة واحدة أن تحلّ محل الدولار كعملة مهيمنة عالمياً، بل يحتاج الأمر إلى قوى اقتصاديّة عالمية متّحدة تواجه النظام القائم. قد يكون ذلك على شكل أحلاف تجارية (حلفاً واحداً أو أحلافاً متعددة). بمعنى أن تكون هذه الأحلاف مستعدة للقيام بتبادلاتها التجارية بالعملات المحليّة.
حلف الـ«بريكس» أحد الأمثلة. وهو حلف تجاري جديد نشأ عام 2009 إثر الأزمة المالية العالمية، ويضم: البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا. يمثّل هذا الحلف نحو 24% من الناتج المحلي العالمي، ونحو 16% من قيمة التجارة العالمية. قد يشكّل هذا النوع من الأحلاف تهديداً للدولار إذا كانت لديه الجرأة للقيام بتحدٍّ جدّي.
تحدّث عن هذا الأمر الباحثتان ميهايلا بابا وزونغيان ليو، في ورقتهما البحثية «هل يمكن لدول «بريكس» أن تنزع دولرة النظام المالي العالمي؟». قدّم البحث سيناريوهَين لتحدي الدولرة العالمية، هما:
-السيناريو الأول، يكون من خلال قيام هذه المجموعة بتحدّي الدولار، وذلك عن طريق إنشاء وإدارة مؤسسات وآليات سوق جديدة غير قائمة على الدولار، بل على عملات دول مجموعة الحلف. أي خلق نظام مالي عالمي موازٍ ومستقل عن هيمنة الدول الغربية والقواعد التي تضعها.
-أما السيناريو الثاني، فهو من خلال محاولة «إصلاح» الوضع القائم، وذلك عن طريق اجتماع الدول الأعضاء وإعادة التفاوض مع الدول المهيمنة على شروط النظام المالي القائم ما يعني الانتقال من أحادية القطب إلى التعدّدية. وهذا لا يبدو منطقياً لأنّ فرضية قبول الولايات المتحدة بالتفاوض على أمر كهذا بشكل سلمي شبه مستحيلة.

قد يكون البديل من هيمنة الدولار، هو أن تبادر عدّة أحلاف تجارية إلى إنشاء آليات دفع خاصّة بها لا ترتبط بالدولار


لقد وضعت مجموعة الـ«بريكس» بعض الأسس التي يمكن أن تكون بمثابة بنى تحتية لنظام مواز. فمثلاً أنشأت «بنك التنمية الجديد» الذي يلعب دور مؤسسة تمويلية للمشاريع التنموية بعملات دول المجموعة. كما تعمل على نظام دفع جديد يمكن أن يُدمج من خلال إنشاء عملة رقمية خاصّة بالمجموعة. كما تقوم هذه الدول، على الصعيد الفردي، بمبادرات لفكّ الارتباط عن الدولار، مثل الصين التي أصدرت منذ سنوات قليلة عقوداً آجلة للنفط مقوّمة باليوان، وأنشأت نظام تحويلات لليوان عابر للحدود، يوازي نظام الـ«سويفت». كما أنشأت روسيا نظاماً خاصا بالروبل أيضاً.
كلّ هذه الأمور تأتي بهدف فكّ الارتباط مع الدولار. لكن هذه البنية التحتية تبقى غير كافية للخروج العالمي عن هيمنة العملة الخضراء. أولاً، لأنّ معظم هذه الإجراءات تأتي في سياق فردي، أو باتفاقات ثنائية. وثانياً، لأنّ هناك عوائق أمام القيام بإجراءت على نطاق أوسع، بسبب العلاقات المتأرجحة بين بعض دول المجموعة - مثل العلاقة بين الهند والصين. كما أنّ اقتصادات مثل البرازيل وجنوب أفريقيا، مكشوفة بشكل كبير على العقوبات الأميركية لأنها منخرطة في نظام الدولار العالمي أكثر من باقي دول المجموعة. إلّا أنّ ما حدث مع روسيا من عقوبات وتجميد للأصول، قد يكون حافزاً لهذه الدول للسعي إلى تخفيف الاعتماد على نظام الدولار الأميركي. وهذه الاحتمالات لا تقف فقط عند مجموعة الـ«بريكس»، بل أيضاً يمكنها أن تمتد إلى أحلافٍ تجارية أخرى مثل الدول المشاركة باتفاق «الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة»، الذي وقّعته الصين مع 14 دولة عام 2020 (منها إندونيسا وسنغافورة وتايلاند وفيتنام وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية).
لذا قد يكون البديل من هيمنة الدولار، هو أن تبادر عدّة أحلاف تجارية إلى إنشاء آليات دفع خاصّة بها لا ترتبط بالدولار، بل بعملات الدول المشاركة. وإنشاء آليات لمدّ الدول بعضها البعض بالسيولة اللازمة، عبر نظام يشبه الـ(Swap Lines). لكنّ انتقال هذه الدول لمواجهة الدولار الأميركي، يحتاج إلى توافر ظروف تجعلها مستعدة لتحمّل مخاطر مواجهة أميركا وعقوباتها. وقد يشكل تجميد احتياطات روسيا المالية ناقوس خطرٍ للعديد من هذه الدول التي رأت اليوم أنها قد تفقد سنوات من مراكمة الاحتياطات بقرار واحد من الرئيس الأميركي.