شكّل الجيل الخامس من تكنولوجيا الإنترنت اللاسلكي المعروف بـ«5G» أحد مسارح الحرب التكنولوجية الدائرة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين. الصين سجّلت عبر «هواوي» تقدماً تاريخياً على الولايات المتحدة في أحد أهم القطاعات التكنولوجيّة، فردّت أميركا بـ«عقوبات» على الشركة الصينية لتقويض التقدّم الصيني ومنعها من استثماره في الأسواق العالميّة. ومع أن هذه العقوبات، تمكّنت من الحد من التوسّع الصيني في الأسواق، إلا أنها لم توقفه.

لم تقدر أميركا، حتى بسلاح العقوبات، على إقناع الدول الحليفة لها، بالتخلي عن العقود المبرمة مع الصين لجهة تركيب شبكات إنترنت الجيل الخامس. ويعود ذلك، إلى أن أميركا لم تستطع أن تقدّم لهذه الدول بديلاً مناسباً. فقد تمكّنت من الوصول إلى الجيل الخامس من إنترنت اللاسلكي في الوقت نفسه مع الصين، لكنّ كلاً منهما توصّل إلى التقنيّة بطريقة مختلفة. والثابت علمياً وعملياً، أن التكنولوجيا الصينيّة تفوّقت على الأميركيّة في الخصائص. فمثلاً سرعة شبكة إنترنت «5G» التي تستخدمها شركتا «Varizon» و«AT&T»، وهي مبنية على التكنولوجيا الأميركيّة، تبلغ 75 Megabits في الثانية، في حين تبلغ سرعة «5G» المبني على التكنولوجيا الصينيّة، نحو 300 Megabits في الثانية. لذا، لا تمثّل التكنولوجيا الأميركيّة بديلاً مناسباً للتكنولوجيا الصينيّة.
يعود هذا التخلّف الأميركي في تكنولوجيا الاتصالات، مقارنة مع الصين، إلى عدم استثمار الدولة في هذا القطاع بما يكفي. في المقابل كانت الصين تستثمر أموالاً طائلة في تطوير قطاع الاتصالات. فالخطة التي أقرّتها أميركا في عام 2021 تقضي بإنفاق نحو 1.5 مليار دولار على الدراسات والتطوير في القطاع على مدى السنوات الخمس القادمة. وفي المقابل، أنفقت الصين لغاية اليوم أكثر من 50 مليار دولار، وهي تنوي إنفاق أكثر من 100 مليار دولار إضافيّة في السنوات العشر القادمة. ويُعدّ هذا الأمر مؤشراً مهماً إلى مصير التنافس بينهما. فالعالم يقف اليوم على أبواب إطلاق الجيل السادس من الإنترنت «6G»، ما يعني أن احتمالات أن تبقى الولايات المتحدة متأخّرة في القطاع مقارنة بالصين ستبقى مرتفعة.
وهذا الأمر ستكون له انعكاسات اقتصادية مباشرة، إذ يُعد التطوّر في قطاع الإنترنت مهماً جداً في ظل المسار العالمي الحالي الذي يُترجم في سيطرة التكنولوجيا على النماذج الاقتصادية. التقدّم في مجال سرعة الإنترنت يعني عمليات إنتاج أكثر فعاليّة، تخفّض الأكلاف وتزيد العائدات، فضلاً عن أن تسهيل انتقال البيانات والمعلومات يجعل الدورات الإنتاجية تسير بشكل سلس.



الهدف من العقوبات
عقب بدء شركة «هواوي» ببيع تكنولوجيا إنترنت الجيل الخامس، انهالت عليها أميركا بالاتهامات قبل أن تضعها على لائحة العقوبات. أبرز هذه الاتهامات، كان أن الشركة تركت «باباً خلفياً» في أجهزتها للمخابرات الصينية، بهدف فتح المجال للتجسّس على الاتصالات. في ذلك الوقت، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إن رئيس مجلس إدارة الشركة الصينية، رين زينغفي، هو شخص له علاقات مع الحزب الشيوعي الصيني، وهو ما يجعله متساهلاً مع المخابرات في موضوع التجسّس. هذه كانت حجج ترامب لتبرير وضع الشركة على لائحة العقوبات. وقد أدّت هذه العقوبات إلى تعقيد ولوج «هواوي» إلى الأسواق بسبب مخاوف الشركات المتعاملة معها من أن تتعرض هي الأخرى إلى العقوبات الأميركية. كما صعّب على الشركة الصينية الوصول إلى الشرائح الإلكترونية التي تستخدم تكنولوجيا أميركية في تصنيعها. والشرائح الإلكترونية هي مدخل أساسي في تصنيع الأجهزة الإلكترونية، وبالأخص الهواتف المحمولة التي تشكّل جزءاً أساسياً من إيرادات الشركة.

إبطاء التقدّم لا إيقافه
رغم الإجراءات التي اتخذتها أميركا، بعقوباتها والحصار الذي فرضته على شركة «هواوي»، لا تزال هذه الأخيرة رائدة في مجال إنترنت الجيل الخامس. فهي تملك حصة 34% من سوق هذه التكنولوجيا. ومع العلم بأن هدف الولايات المتحدة الأميركية كان تقويض التقدّم الصيني في هذا المجال، لضمان عدم كسب هذه الأخيرة أفضلية سياسية عليها، إلا أنها لم تحرز هي تقدماً في الأسواق، فلا تزال الشركات الأميركية لا تبيع أي أدوات تتعلق بالبنى التحتية للـ«5G» خارج أميركا.
سرعة الـ«5G» المبنية على التكنولوجيا الأميركيّة تبلغ 75 Megabits في الثانية مقابل 300 Megabits في الثانية للتكنولوجيا الصينية


لقد أدّى الضغط الأميركي، إلى إلغاء العقود بين بريطانيا و«هواوي» بشأن تطبيق نظام الـ«5G» في البلد، وهو ما أفقد بريطانيا فرصة إدخال عنصر كان من الممكن أن يدفع تقدّمها الاقتصادي بشكل كبير. كما أن العقوبات أفقدت الشركة عقوداً في أستراليا ونيوزيلندا وكندا. لكنّ «هواوي» لا تزال تعمل في أماكن عدّة أخرى، مثل السعودية، التي لم تتراجع عن اتفاقها مع الشركة، بالإضافة إلى جنوب أفريقيا وروسيا وتركيا. وهي لديها قاعدة سوقية قوية في أفريقيا وجنوب شرق آسيا. ففي أفريقيا، بنت شركة «هواوي» 70% من شبكات الـ«4G» في هذه الدول، والثقة المتبادلة التي أنشأتها مع الحكومات تعطيها ضمانات في أن عقود الـ«5G» مع هذه الدول في أمان. كما أن «هواوي» تعمل في الصين على نطاق واسع، حيث تمثّل حصّة 60% من السوق الصينية. لقد تمكّنت العقوبات من وضع حد لدخول الصين إلى الأسواق الغربية، الأوروبيّة والأميركيّة، لكنها لم تستطع أن توقف زحفها في المناطق الأخرى من العالم.
في المقابل، تمكّنت العقوبات من ضرب فرع الهواتف المحمولة في شركة «هواوي»، فبعدما كانت الشركة تحتلّ المركز الأوّل في السوق العالمية للهواتف لجهة عدد المبيعات، انزلقت في عام 2021 إلى المركز الخامس. ويعود ذلك إلى أن العقوبات جعلت المستخدمين يخافون من منع هواتف «هواوي» من العمل على نظام تشغيل «أندرويد». كما لعب منع «هواوي» من الحصول على الشرائح الإلكترونية، من شركة «TSMC» التايلندية، دوراً هاماً في انخفاض مبيعاتها في سوق الهواتف الذكية.