ما يحدث في مصر هو نموذج كلاسيكي للدول التي تُدمن على صندوق النقد الدولي. عملياً، هذه الدول انخرطت في الأنماط الاستهلاكية التي يفرضها النظام الاقتصادي المهيمن، وباتت خاضعة لهيمنة التمويل الخارجي من أجل تمويل استهلاكها الداخلي. هو أمر اختبره لبنان في العقود الأخيرة بشكل متوحّش، أي التبعية للتمويل الخارجي وسط نهب وفساد محليَّين. وتثبت الحالة اللبنانية أنه مهما طال الزمن، فإنّ الانهيار هو مصير هذا النموذج. ومع مصر لا تشبه لبنان بالتفصيل في بنية الحكم الداخلي والنخبة المالية المهيمنة، إلّا أنها قرّرت في إطار سياسي دولي، أن تفتح حدودها أمام الاستيراد بالتزامن مع أول برامجها مع صندوق النقد الدولي، فوقعت، عند أول مفترق، في الفخّ مجدداً، وعادت لتستنجد بصندوق النقد الدولي. هذه المرّة الضربة أتتها من تداعيات الحرب الروسيّة - الأوكرانية. إذ بدأت رؤوس الأموال الأجنبية تنسحب من مصر التي يعتمد اقتصادها بشكل كبير على تدفّقات رأس المال الأجنبي، سواء عبر الاستثمارات المباشرة أو الاستثمارات في الأسواق الماليّة أو التحويلات من المغتربين. وهذا الأمر جعل مصر عرضة لأي خضّات خارجية، كما يحدث اليوم، إذ تضطرّ أن تلجأ إلى صندوق النقد الدولي مجدداً، للاستدانة. مصر اليوم هي رهينة صندوق النقد، بسبب اعتمادها المفرط على تدفّق الأموال الأجنبية.

إجراءات «المركزي»
في مواجهة نزف رؤوس الأموال إلى الخارج، قرّر المصرف المركزي المصري، خفض قيمة العملة مقابل الدولار من 15.7 جنيه إلى 17.5 جنيه للدولار الواحد، ورفع أسعار الفائدة بنقطة مئوية واحدة لتصبح 9.25%. يستهدف المصرف المركزي بهذه الخطوة، منع خروج رأس المال بالعملات الصعبة من البلد، وخصوصاً من سوق السندات المصرية المحليّة، وبالتالي منع النزف في حساب رأس المال. وهو يعوّل على أنّ المستثمرين الأجانب في الأسواق المحليّة (استثماراتهم بالعملة المحليّة) قد لا يرغبون في أن تتحقّق خسائر في استثماراتهم بسبب تراجع قيمة العملة المحليّة. فيفضّلون الاحتفاظ بهذه الاستثمارات إلى حين عودة قيمة العملة المحلية للارتفاع. بهذه الطريقة، يأمل المصرف المركزي المصري بأن «يحبس» المستثمرين في السوق المحليّة.

15

مليار دولار هو الحدّ الأقصى المقدّر للأموال التي خرجت من سوق السندات المصريّة في الأسابيع الثلاثة الأخيرة بحسب تقديرات بنك «غولدمان ساكس»


بمعنى آخر، إنّ المستثمر الأجنبي الذي اشترى سندات بقيمة 15.7 مليون جنيه حين كانت توازي مليون دولار، وأصبحت قيمة استثماره اليوم نحو 900 ألف دولار، لن يرغب في خسارة الـ100 ألف دولار، ويخاطر في الاحتفاظ باستثماره لحين ارتفاع قيمة العملة مجدداً. هذه مخاطرة محسوبة لدى المستثمرين ومرتبطة بقراءتهم للتوقعات المستقبلية في مصر، سياسياً واقتصادياً، وتموضعها داخل منظومة الاقتصاد العالمي. كذلك، يُعوّل المركزي المصري على جذب رؤوس الأموال الأجنبية من خلال رفع الفائدة، إذ إنه يُقدِّر بأن خفض قيمة العملة يُرسل إشارات إلى الأسواق بأن لا مخاطر مستقبلية لانخفاضات إضافيّة. عملياً، المصرف المركزي اضطر أن يخفّض سعر الصرف لأنه لم يعد قادراً على الدفاع عن استقراره ضمن معدل 15 جنيهاً من دون نزيف في الاحتياطات.

نحو صندوق النقد
تزامن قرار المصرف المركزي المصري، مع طلب الحكومة المصرية المساعدة من صندوق النقد الدولي عبر برنامج تمويلي جديد، يُضاف إلى البرنامج السابق في 2016، وما تلاه من عقود أخرى أثناء أزمة كوفيد- 19. ففي تشرين الثاني 2016 وقّعت مصر اتفاق قرض بقيمة 12 مليار دولار مع صندوق النقد الدولي في برنامج امتد على ثلاث سنوات. تضمّن البرنامج العديد من الشروط التي وضعها الصندوق، مثل تعويم سعر الصرف وضبط الإنفاق في الموازنة العامّة وزيادة الضرائب. قبل هذا الاتفاق كان سعر صرف الجنيه مثبتاً بقيمة أعلى من قيمته الحقيقية، وعندما تراجعت احتياطات مصر لم تعد قادرة على حماية سعر الصرف، ما أدّى إلى نشوء سوق موازية. كما كانت مصر تُعاني من عجز في الحساب الجاري.

القطاعات التي حصدت النموّ الأكبر منذ دخول صندوق النقد إلى مصر هي القطاعات الأنجح منذ ما قبل 2016


وبعد خمس سنوات ونصف، لا تزال مصر تعاني من هذا العجز، إلا أنه تفاقم في السنة الأخيرة وعاد إلى مستويات ما قبل الاتفاق مع صندوق النقد. وبلغ عجز الحساب الجاري للعام المالي 2020-2021 نحو 18.4 مليار دولار، بعدما كان 19.8 مليار دولار في 2015-2016، أي في السنة التي سبقت الاتفاق مع صندوق النقد. يشكّل العجز في الميزان التجاري المصدر الأكبر للعجز في الحساب الجاري، وذلك يعود إلى اعتماد مصر على الاستيراد لتغطية معظم حاجاتها. وقد كان الحساب المالي وحساب رأس المال يغطيان جزءاً من العجز في الحساب الجاري. الحساب المالي هو الحساب الذي يشمل الاستثمارات الأجنبية المباشرة والاستثمارات في الأسواق المالية، التي تتضمّن سندات الدين. وفي السنوات التي لم يكن فيها حسابا المال ورأس المال كافيان لتغطية العجز في الحساب الجاري، كان الاعتماد على الاحتياطات، ما تسبب بانخفاض في الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى المصرف المركزي. بمعنى أنّ أرقام الحسابات الخارجيّة لمصر اعتمدت على تدفقات رأس المال الأجنبي.


خلل اقتصادي بنيوي
في تقرير لمؤسسة «فريدريش ايبرت»، حول تداعيات برنامج صندوق النقد في مصر، يظهر أنّ المشكلة البنيوية الموجودة في القطاعات الاقتصادية لم تُحلّ. فبحسب التقرير، إنّ القطاعات التي حصدت النمو الأكبر منذ دخول صندوق النقد كانت لا تزال هي القطاعات الأنجح منذ ما قبل عام 2016. وهذه القطاعات هي القطاع المالي وقطاع النفط والغاز بالإضافة إلى قطاع الإنشاءات. فالقطاع المالي كان يتلقّى الاستثمارات في الأسواق الماليّة الآتية من الخارج، أما قطاع النفط والغاز فحصد ازدهاراً بعد عام 2016 بعد اكتشافات حقول الغاز والبدء باستخراجه، وقطاع الإنشاءات كان يحوز على استثمارات الدولة، سواء كان هذا الأمر في بناء الجسور والطرقات والمدن الجديدة. المشكلة هي أنّ هذه القطاعات هي قطاعات ريعيّة، غير منتجة.

11%

هي نسبة الانخفاض في قيمة الجنيه المصري في الأسبوع الماضي بعدما عمد المصرف المركزي المصري إلى خفض قيمة الجنيه مقابل الدولار من 16 جنيهاً إلى 17.5 جنيهاً


رغم دخول الكثير من رأس المال الأجنبي، أغلبه كان عبارة عن استثمارات خليجيّة، لم يتم استغلال هذا الأمر لزيادة الإنتاج. وفي حال كان هناك استثمارات من هذا النوع فإن نتائجه لم تكن ناجحة. يظهر هذا الأمر من خلال النظر إلى أرقام الميزان التجاري، فبعدما شهد تراجعاً في العجز في السنتين اللتيْن تلتا الاتفاق مع صندوق النقد (30 و36 مليار دولار في عامَي 2016 و2017 توالياً)، وهو ما كان نتيجة لتراجع قيمة الجنيه المصري وبالتالي تراجع القدرة الاستهلاكيّة والاستيراد، عاد العجز في الميزان التجاري للارتفاع في السنوات التالية (44 و42 مليار دولار في عامَي 2018 و2019 توالياً)، قبل أن توقفه جائحة كورونا في عام 2020 حيث بلغ 33 مليار دولار. هذا الأمر يُظهر أنّ الاستثمار في الإنتاج لم يكن ملحوظاً، فلو كان كذلك لانخفض العجز في الميزان التجاري، على مدى خمس سنوات (وهي مدة طويلة)، بشكل أكبر. فإذا كان الاستثمار في الإنتاج ناجحاً، لكانت الصادرات ارتفعت أو انخفض الاستيراد بسبب استبدال الاستيراد بالبضائع المحليّة، وفي كلا الحالتين تكون النتيجة انخفاضاً ملحوظاً في العجز في الميزان التجاري.