مثّل احتكار التكنولوجيا أداة لدى دول «المركز الرأسمالي»، للحفاظ على مكانتها في النظام الاقتصادي العالمي. ومن هذا الموقع، تتسلّط على باقي الدول وتحاول منع التكنولوجيا عنها، حيث تقدر، لمنع أي تقدّم ينافسها. ظهرت هذه القدرة في حالات مختلفة أحدثها تلويح الولايات المتحدة الأميركية بسلاح العقوبات على الصين في حال قامت هذه الأخيرة بمساعدة روسيا في تخطّي العقوبات التي فرضها عليها الغرب بسبب الأزمة الروسية - الأوكرانية.
مورو ــ كوبا

الإنتاج النوعي
تنقّل العالم الغربي في القرن العشرين، بين نموذجين اقتصاديّين؛ فبعدما كان نموذجه السائد حتى منتصف القرن العشرين، يعتمد على الإنتاج المكثّف، أي الاعتماد على الإنتاج بكميات كبيرة لتصديرها إلى الدول النامية، تحوّل لاحقاً إلى نموذج الإنتاج المتخصّص. يتحدّث عن هذا التحوّل من الإنتاج الكمّي إلى الإنتاج النوعي روبرت رايش في كتابه «عمل الأمم: إعداد أنفسنا لرأسمالية القرن الحادي والعشرين». ويُشير إلى أنه في قطاع الحديد، على سبيل المثال، تخلّت الشركات الغربيّة عن إنتاج الحديد بكميّات كبيرة للاستخدام المحلّي والتصدير، وحوّلت جهودها لإنتاج الحديد للاستعمالات الخاصّة، مثل الحديد المقاوم للصدأ، والحديد المستخدم في المحرّكات الذي يجب أن يكون قادراً على تحمّل درجات حرارة مرتفعة وجهد كبير. كذلك الأمر، بالنسبة لخلائط المعادن التي تُستخدم في صنع قطع الطائرات بعد تمكينها من تحمّل الضغط والحرارة. وينطبق الأمر على قطاعات أخرى، مثل البلاستيك، إذ تحولت المصانع من تصنيع البوليمر العادي الذي تصنّعه الدول النفطية اليوم، إلى البوليمر المقاوم للإجهاد والحرارات المرتفعة الذي يستخدم في الكومبيوترات والهواتف الخلوية. وأكبر القطاعات التي شهدت هذا التحوّل هو قطاع الإلكترونيات. فمثلاً تحوّلت شركات الكمبيوتر من تصنيع القطع وتجميع الكومبيوترات، إلى التركيز على إنتاج البرامج التي تعمل عليها هذه الكومبيوترات. وحوّلت تصنيع القطع إلى بلدان أخرى أقل تقدّماً، وأصبح الإنتاج الأساسي لشركات الكمبيوتر هو إنتاج البرامج الذي هو أقل كلفة مقارنة مع إنتاج القطع لأنه لا يحتاج إلى العدد نفسه من العمّال، ولا إلى الآلات الضرورية لإنتاج القطع، فضلاً عن أنه أكثر ربحيّة.
ويقول رايش أن هذه الشركات استطاعت التحوّل إلى نموذج الإنتاج النوعي من خلال استغلال عاملَين:
- الأوّل، هو اسم الشركة وسمعتها التي بنيت خلال عقود من اجتياح الأسواق العالمية بمنتجاتها. وهذه الشهرة جعلت المستهلكين مستعدّين لدفع أسعار باهظة لقاء منتجات الشركة، ما حقّق لها أرباحاً كبيرة.
- الثاني، هو أنه لا يمكن للشركات الأخرى خارج دول العالم المتقدم، أن تستنسخ أعمالها، بسبب الفوارق في الموارد المتاحة والمعرفة. أتاح لها ذلك، الاستحواذ على حصص سوقية وازنة عالمياً ما أتاح لها تحقيق أرباح طائلة من خلال التحكّم بأسعار إنتاجها وضعف القدرة على مجاراتها في تقديم النوع نفسه والكمية نفسها.
هذا التحوّل إلى الإنتاج النوعي، أو الإنتاج عالي القيمة، كان يتطلّب تطويراً للتكنولوجيا، وبالتالي إلى مراكز أبحاث تتولى البحث عن وسائل وإمكانات فنية لاستمرار عملية التطوير، لذا، يمكن القول أنّ مستهلكي هذه المنتجات النوعيّة لا يدفعون ثمن المنتجات وحدها، بل يدفعون أيضاً ثمن الأبحاث العلمية التي سمحت بصناعة هذه المنتجات.

التبعية التكنولوجيّة
انتقال الشركات والدول الغربيّة إلى الإنتاج عالي القيمة، أعطاها أفضليّة على الدول النامية أكبر من الأفضلية التي كان يستحوذ عليها الغرب من خلال الإنتاج الكمّي. فأصبحت هذه الدول تمتلك التكنولوجيا التي لا يمكن للدول النامية أن تصنعها. وهي تكنولوجيا تحتاجها الدول النامية لدمجها في عملية الإنتاج، على الأقل بشكل فعّال. يسمي ديفيد سميث هذا الأمر بـ«التبعية التكنولوجية». ويشرح في دراسة بعنوان «التكنولوجيا والنظام العالمي الحديث: بعض التأملات»، أن التبعية التكنولوجية أصبحت أهم الأدوات التي تستخدمها دول «المركز الرأسمالي» للحفاظ على تفوّقها ضمن هرميّة النظام الاقتصادي العالمي. في المقابل، «دول الهامش» غير قادرة على استخدام مواردها في الأبحاث والتطوير. يعود ذلك إلى أنّ الأبحاث تحتاج إلى بنى تحتيّة مكلفة جداً تضمّ مختبرات وجيوش متخصّصَين وأنظمة تعليم متميّزة... كل هذا يحتاج إلى موارد ماليّة هائلة، لا تستطيع دول الهامش، بفعل وضعها في النظام الاقتصادي، تحمّلها. لذا، تبقى هذه الدول بحاجة إلى التكنولوجيا التي تطوّرها دول المركز. هذا الأمر يضع الدول الهامشيّة بين خيارين: أن تعمل شركاتها بالتقنيات المتوافرة لديها وهي أقل كفاءة، وبالتالي لا تستطيع أن تحقق زيادة في الأرباح. أو شراء التكنولوجيا من دول المركز والحصول على حقوق ملكية مكلفة جداً. في كلا الحالتين تدفع هذه الدّول ثمن تخلّفها التكنولوجي.
تملك الدول المتقدّمة التكنولوجيا التي لا يمكن للدول النامية «الهامشية» أن تصنعها


يقول سميث أنه كان هناك طرفان فاعلان في حركة الأبحاث والتطوير في سبيل التقدّم التكنولوجي: الحكومات والشركات الكبرى. فالحكومات تهدف إلى تحقيق تقدّم في مجالات التكنولوجيا للحصول على أفضليّة سياسيّة في بعض القطاعات الحيويّة. أما بالنسبة للشركات الكبرى، فإن التقدّم التكنولوجي يعطيها هوامش ربح أكبر، وهو دافع أساسي للسعي خلف هكذا نوع من التقدّم.
مع هذا التحوّل في دول «المركز الرأسمالي»، انتقلت الصناعات الكميّة إلى «دول الهامش»، وذلك لاستغلال الشركات الغربيّة انخفاض كلفة اليد العاملة والمواد الأوّلية فيها، بالإضافة إلى عدم وجود الضوابط البيئية المفروضة في دول الغرب. إنّ انخفاض هذه الأكلاف في الدول الهامشيّة هو بذاته نتيجة للنظام العالمي الذي ينقل القيمة من هذه الدول إلى دول المركز. فيتم التصنيع في دول الهامش بأكلاف منخفضة، ويُباع الإنتاج بأسعار منخفضة أيضاً، بينما تستفيد دول المركز من هذا الأمر من خلال شراء هذه المنتجات وبيعها على اسمها بأسعار أعلى. هذه إحدى طرق نقل القيمة.
هذه «التبعية التكنولوجية» تمنع ارتقاء الدول شبه ــ الهامشيّة، وهي دول تحتل مراتب أعلى من دول الهامش في النظام العالمي، لتصبح دول مركز.
سميث، يروي أنه تحدّث مع أحد المخطّطين في «المعهد الكوري للاقتصاد والتكنولوجيا» في عام 1988، وكوريا الجنوبية هي بالمناسبة دولة تصنّف شبه ــ هامشيّة، فكان جواب الأخير أن تطوير تكنولوجيا مستقلّة، والانتقال نحو الإنتاج عالي القيمة، هما المفتاحان الأساسيان للحفاظ على اقتصاد كوريا الجنوبية كمنافس دولي حقيقي. لذا، إن الانتقال إلى صناعة التكنولوجيا العالية هو الوسيلة لعبور الاقتصاد الكوري إلى ما بعد المرحلة التي تعتمد فيها الأرباح والإنتاجية على قمع العمالة والأجور المنخفضة. وهذا الانتقال لا يمكن أن يحدث من دون أن تحصل كوريا على استقلالية تكنولوجية. لكن العوائق أمام هذا الأمر كثيرة.

نموذج التهديد بالعقوبات
تتجسّد التبعيّة التكنولوجيّة في استغلال الغرب لها، بهدف فرض مصالحه السياسية. اليوم، تهدّد الولايات المتحدة الصين بالعقوبات إذا قرّرت الأخيرة أن تقف مع روسيا وتجاهلت العقوبات التي يفرضها المعسكر الغربي على موسكو. وأكثر ما يُتداول في الإعلام الأميركي حول هذا الموضوع هو، أنّ العقوبات يمكنها أن تؤذي الصين إذا طالت قطاع الشرائح الإلكترونيّة. هذا القطاع هو أحد المجالات التي لا تملك الصين استقلاليتها فيه، علماً بأنها خاضت محاولات عدّة، ولا تزال، لتطوير التكنولوجيا اللازمة. والشرائح الإلكترونية هي مدخل أساسي في التصنيع، يدخل في إنتاج السلع من الهواتف المحمولة إلى السيارات، وله تأثير كبير على سلاسل التوريد العالمية.
إلا أن مجال الشرائح الإلكترونيّة لا يمكن اختراقه بسهولة، وسلاسل التوريد فيه معقّدة نوعاً ما. فالأمر لا يتعلّق فقط بالتصنيع، بل هناك قطاع لتصميم الشرائح، وقطاع لصناعة الآلات التي تُستخدم في صناعة الشرائح. وكل من هذين القطاعين يحتاج إلى خرق تكنولوجي لتصبح الصين قادرة على تصنيع الشرائح من دون الاعتماد على سلسلة التوريد الغربية. هذه السلسلة تبدأ من الأدوات اللازمة لتصميم الشرائح، والدولة الرائدة في هذا المجال هي الولايات المتحدة. ومن ثم تمرّ السلسلة بصناعة الآلات التي تستخدم في تصنيع الشرائح، وفي هذا المجال تصنّع شركة ASML الهولندية آلة تستخدم الأشعّة الشديدة فوق البنفسجية (EUV)، وهي مطلوبة لصناعة الشرائح الإلكترونية الأكثر تقدّماً. كذلك تصنع Samsung الكورية وTSMC التايوانية الشرائح بشكلها النهائي. علماً بأن الصين تحاول طوال السنوات الماضية التخلّص من هذه التبعيّة، إذ حققت بعض التقدم في مجال التصميم، إلا أنّ الطريق لا يزال صعباً لفك اعتمادها على سلسلة التوريد الغربية في هذا القطاع. وقد استخدمت الولايات المتحدة سلطتها في هذا المجال، من قبل، لتمنع تقدّم الصين فيه، فمنعت في السنوات الماضية شركة ASML من بيع الآلات للصين. بمعنى آخر، تستخدم الولايات المتحدة تبعية الصين التكنولوجيّة لمنعها من الخروج من هذه التبعيّة، وهذا تجسيد واضح لطريقة عمل النظام الاقتصادي العالمي اليوم. فالمطلوب من الصين أن تبقى الدولة التي تنتج الكميات لخدمة حاجات دول المركز الاستهلاكيّة من دون أن تحقّق تقدّماً تكنولوجيّاً يساعدها على مشاركة أسواق المنتجات عالية القيمة مع دول المركز.