وفق بول كروغمان، فإن أزمة ميزان المدفوعات تحصل في اقتصاد مفتوح لديه سعر صرف ثابت يجري الدفاع عنه حتى آخر دولار في احتياطات العملات الأجنبية في مواجهة هجمات المضاربين. في حالة لبنان، لم يدافع مصرف لبنان عن الليرة، بل تركها تنهار. لكنه لم يفعل ذلك من أجل الحفاظ على احتياطاته بالعملات الأجنبية، بل بهدف تعميم خسائر القطاع المصرفي عبر التضخّم وتعددية أسعار الصرف. المفاجأة، في عودته إلى سياسة تثبيت سعر الليرة مقابل الدولار بعدما بدّد من احتياطاته 20.6 مليار دولار على دعم المصارف وبعض نواحي الاستهلاك، وبعدما حوّل كل المقيمين إلى «مضاربجية». مخاطر حدوث أزمة ميزان مدفوعات كالتي تحدّث عنها كروغمان، أي أزمة ما بعد نفاد الاحتياطات، باتت مرتفعة
حسن بليبل ــ لبنان

يمثّل تثبيت سعر الصرف الذي اتبعه المصرف المركزي منذ منتصف التسعينيات، أحد أهم مصادر أزمة انهيار النقد التي انفجرت قبل ثلاث سنوات. فهذه السياسة أسهمت في تحوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد استهلاكي - ريعي يعاني من التبعيّة النقديّة لمصادر رؤوس الأموال التي كانت تغذّي استمراريته. فالجزء الأهم من الخسائر المسجّلة في القطاع المصرفي سببها هذه السياسة التي قامت على شكل استدراج المودعين لاستعمال أموالهم في تثبيت سعر الصرف. لكن لم تكد ثلاث سنوات تمر على نهاية نهج التثبيت حتى عاد مصرف لبنان إلى السياسة نفسها وأطلق جولة جديدة من تثبيت سعر الصرف على نطاق أصغر وبسعر صرف أعلى بكثير. إنما هذه الجولة تأتي في ظل وضع دقيق وموارد محدودة بالعملات الأجنبية ومن دون خطّة واضحة شاملة ما يترك اقتصاد لبنان وعملته مكشوفين على مخاطر «هجمات المضاربين».

نموذج «كروغمان» - لبنان
إحدى الدراسات عن نماذج أزمات العملات، أجراها الاقتصاديّ الأميركي بول كروغمان. تتطابق الظروف التي تحدّث عنها كروغمان مع وضع لبنان. فهو يفترض أن هناك اقتصاداً صغيراً مفتوحاً، أي أن حركة رأس المال منه وإليه حرّة. كما يفترض أن سعر الصرف ثابت، وأن الدين العام في حال توسّع دائمة سببها العجز المزمن في موازنة الدولة، وأن الاقتصاد يعاني عجزاً مزمناً في ميزان المدفوعات. ويعتمد الاقتصاد في نموذج كروغمان على الاحتياطات بالعملات الأجنبية لتثبيت سعر الصرف. وهي احتياطات تُستنزف بشكل تدريجي نتيجة عجز ميزان المدفوعات المتواصل. فهذا العجز يعني أن المصرف المركزي بحاجة إلى استخدام احتياطاته بهدف تأمين السيولة اللازمة للسوق بالعملات الأجنبية للحفاظ على سعر صرف ثابت.
العجز في ميزان المدفوعات يعني أن العملات الأجنبية الخارجة من الاقتصاد تتجاوز حجم العملات الأجنبية الداخلة إليه. والعجز بين الأموال الخارجة والداخلة من الاقتصاد وإليه، يجب أن يُغطى بتدفقات إضافية بالعملات الأجنبية، وإلا ستكون النتيجة انخفاضاً في سعر الصرف بسبب انعدام التوازن بين العرض والطلب.

20.6 مليار دولار

هي قيمة تراجع احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية منذ بداية الأزمة حيث كانت في أول كانون الثاني 2019 تبلغ نحو 32.5 مليار دولار لكنها تراجعت إلى 11.9 مليار دولار في نهاية شباط 2022


ما يخلص إليه كروغمان هو أنه في نهاية الأمر يحدث «هجوم مضاربجي» على الاحتياطات المتبقية لدى المصرف المركزي فيستنفدها كلياً.
عملياً، هذا ما حصل في لبنان منذ مطلع التسعينيات لغاية 2019، إنما في السنوات الثلاث الأخيرة لم يحصل هجوم المضاربجيين المباشر، بل أوقف مصرف لبنان تدخله في السوق حفاظاً على احتياطاته بالعملات الأجنبية وترك سعر الصرف يعوم في بحر من الخسائر الضخمة، وبدا يستعمل أدواته لخلق تعددية في أسعار الصرف تجنّباً لحصول أزمة ميزان مدفوعات بالشكل الذي تحدّث عنه كروغمان في نموذجه.
وبدلاً من أن يستنزف هجوم المضاربجيين العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، قام هذا الأخير باستنزافها بنفسه. فمنح المصارف قروضاً بقيمة 8 مليارات دولار، ثم قرّر التوسّع في دعم السلع المستوردة، وأصدر تعاميم تخلق أسعاراً متعدّدة لسعر العملة.
هروبه من أزمة نموذج كروغمان، لم تدم طويلاً. فها هو اليوم يعود إلى جولة جديدة من التثبيت بعدما خلق بنفسه بيئة المضاربجيين. كل مودع وكل مؤسسة لديهما الفرصة اليوم ليلعبا دوراً في المضاربة على العملة.
فالمعروف أن «هجوم المضاربجيين» هو عبارة عن أفراد ومؤسسات يبيعون عملة «قيد الدراسة»، أي لا قيمة مستقرّة لها، وهذا ما يضمن لهم أرباحاً مرتفعة. يشرح هذا الأمر بشكل أدقّ، الباحث الاقتصادي ستيفن سالانت. يقول إن المضارب مستعدّ أن يحمل سلعة (العملة بهذا المعنى هي سلعة) معينة، فقط في حال كان سعرها سيرتفع بنسبة توازي الارتفاع في سعر سلعة أخرى تحمل المخاطر نفسها. ويقدّم مثالاً على ذلك، أن أي حكومة تريد الحفاظ على سعر سلعة معيّنة، تلجأ إلى تثبيته، أي تضمن شراءها وبيعها بسعر تحدّده. فطالما السعر المثبّت أعلى من السعر الحقيقي للسلعة، يتّخذ المضاربون قرار بيع السلعة. وعندما يصبح السعر «الحقيقي» للسلعة أعلى من السعر المثبّت، يغتنم المضاربون الفرصة ويشترون السلعة ويقومون بتخزينها أملاً بتحقيق الأرباح. في هذه الحالة ينفد مخزون الحكومة من السلعة، فتصبح ضحيّة «هجوم مضاربجيين». في وضع لبنان، إن السلعة هي الدولار.
إذاً، ما الذي حصل في لبنان؟ منذ منتصف التسعينيات كان سعر الدولار ثابتاً تجاه الليرة. وكانت الاحتياطات تُموّل بتدفقات العملة الأجنبية الآتية إلى لبنان طمعاً في أسعار الفائدة المرتفعة. صحيح أن هذا النموذج تعرّض لنكسات عدّة كادت أن تطيح به، إلا أنه صمد بسبب ظروف خارجية دفعت التدفقات إليه لتغطية خساراته المتراكمة. لكن منذ عام 2011، بدأ ميزان المدفوعات يشهد عجوزات متتالية، باستثناء سنتين نفّذ فيهما مصرف لبنان عمليات لاستقطاب تدفقات بفوائد مرتفعة. لكن التدفقات لم تعد قادرة على تغطية الخسائر المتراكمة، وبدأت احتياطات مصرف لبنان تستنفد بشكل متسارع، ما دفعه في منتصف عام 2019 إلى التخلي التدريجي عن سياسة تثبيت سعر الصرف.
لقد كان قرار تخلّي مصرف لبنان عن تلك السياسة ردّ فعلٍ استباقياً لنفاد الاحتياطات بشكل كامل. لكن قبل أن يفعل ذلك كان قد استنفد جزءاً كبيراً من الاحتياطات الموجودة لتمويل عمليات سحب وخروج العملات الأجنبية من القطاع المصرفي. واستمرّ الأمر منذ عام 2017 من دون توقف. كما أنه شهد خلال عام 2019 إقدام الكثير من الناس على تحويل أموالهم من الليرة إلى الدولار بغية الحفاظ على قيمة أصولهم، وذلك بسبب الإشارات التي ظهرت في الأسواق، والتي وشت بأن أمراً ما سيحدث في سعر الصرف. كان لهذه العمليات أثر مشابه لهجومات المضاربة، التي يتحدّث عنها نموذج كروغمان، فقد تسببت بنزيف في احتياط العملات الأجنبيّة الذي تسارع بالانخفاض، ثم شحّ معروض العملات الأجنبية المتاح في السّوق، الأمر الذي دفع بالسعر «الحقيقي» للدولار إلى الارتفاع أكثر من سعر التثبيت. إلا أنه بنتيجة هذا الأمر لم تستنزف الاحتياطات بشكل كامل، لأن المصرف قرر التخلّي عن سياسة التثبيت قبل أن يتوقّعه السوق، وهو ما لم يسمح للمضاربين بتنفيذ هجوماتهم.
في العادة لا تلجأ المصارف المركزيّة إلى التخلّي عن سياسة تثبيت سعر الصرف قبل نفاد الاحتياطات، وذلك خوفاً من التدهور السريع للقدرة الشرائيّة للمواطنين. لكن في لبنان، لم يكن هذا الأمر من أولويات المصرف المركزي.

نحو التثبيت مجدّداً
بين عامَي 2019 و2021، كانت السمة الأساسية لأهداف مصرف لبنان تغطية الخسائر المتراكمة عبر ضخّ السيولة بالليرة في السوق. وفي نهاية 2021، قرّر أن يستعيد نموذجه السابق. فأصدر التعميم 161 الذي يتيح للمصارف شراء دولارات ورقية منه بسعر «صيرفة»، وبيعها للزبائن مقابل عمولة سواء كان الزبون سيسحب من وديعته، أو جاء بكميات من الليرات التي بحوزته. الهدف من التعميم استعادة «السيطرة» على سعر صرف الدولار في السوق. بمعنى آخر، عودة إلى سياسة التثبيت إنما بسعر يقارب 20 ألف ليرة لكل دولار.
لكن عودة مصرف لبنان إلى هذه السياسة في ظل استمرار العجز في ميزان المدفوعات، تعني العودة إلى توقعات كروغمان عن أزمة ميزان مدفوعات بعد نفاد الاحتياطات. فما يحدث اليوم، هو أن مصرف لبنان قد خصّص جزءاً من احتياطاته لتثبيت سعر الدولار، إلى أجلٍ غير مسمى (بعض الطروحات تقول حتى الانتخابات النيابيّة). لكن السوق في هذه المرحلة يعرف أنه سرعان ما سيتوقّف «المركزي» عن ضخّ هذه الأموال، وسيكون مصير سعر الصرف حتماً إلى الارتفاع مجدداً عند توقف مصرف لبنان عن التثبيت أو عند نفاد الاحتياطات أو بلوغها مستوى منخفضاً جداً. وتتعزّز هذه الاحتمالات في ظل عودة المصرف المركزي إلى سياسته «التوسّعيّة» التي تقضي بطباعة الليرة لتمويل المصارف التجارية.

بول كروغمان: تنفد احتياطات المصرف المركزي بسبب هجومات المضاربجيين


في نموذج كروغمان، العامل المهم هو معرفة المضاربين للتوقيت الأمثل لتنفيذ هجماتهم. وهو توقيت يسبق تحوّل السلطة النقديّة من سياسة سعر الصرف الثابت إلى التعويم (بشكل فعليّ على الأقل). هذا الهجوم يمكنه أن يمتصّ قسماً كبيراً من الاحتياطات المخصّصة لعمليّة تثبيت سعر الصرف، ويمكنه أيضاً أن يتسبب برفع سعر الصرف الحقيقي أعلى مما يمكن أن يكون عليه إذا نفدت الاحتياطات بشكل كلي. فاليوم، يضمن المصرف تدفّق الدولارات إلى السوق. والسوق الحرّة هي الملعب الذي يسرح فيه المضاربون من دون رقيب أو حسيب، فطالما يعتزم المصرف تثبيت سعر الصرف، يمكن للمضاربين أن ينفذوا هجومهم من خلال السوق الحرّة، في مقابل تزويد المصرف لها بالدولار بهدف محاولة الحفاظ على السعر الذي حدّده.
بعودته إلى هذه السياسة يهدّد مصرف لبنان احتياطات العملات الأجنبيّة بالنفاد، وهي التي يمكن أن يستفيد منها الاقتصاد بشكل منتج ومفيد. ولكنه يفعل ذلك لأهداف سياسيّة، في حين يترك أصل المشكلة المتعلّقة بالخسائر في القطاع المصرفي، وهي الخسائر التي تُحمّل يومياً على كاهل المجتمع. وتغاضي المركزي عن هذه الحقيقة هو ما «يجبره» على اتباع سياسته النقدية «التوسّعية» التي نتج عنها تدهور سعر الصرف في السنتين الماضيتين، وهو ما سيعود إليه ربما قريباً، عندما ينتهي من مرحلة تثبيت سعر الصرف.