تُعدّ سرقة الأموال العامة من أكبر المشاكل البارزة التي تعاني منها الدول النامية. فبحسب مكتب الأمم المتحدة المعنيّ في المخدرات والجريمة، تُقدّر قيمة الأموال المسروقة أو المهدورة الناتجة من الفساد في القطاع العام، بما يُراوح بين 20 مليار دولار و40 مليار دولار سنوياً. تكشف هذه الأرقام عن حجم هذه المشكلة التي لا تنحصر بالكلفة المباشرة للفساد على الاقتصاد، بل تمتدّ نحو كلفة التأثير السلبي على الثقة بالمؤسسات العامة وهروب الاستثمارات نحو أسواق أكثر أماناً. ويضاف إلى ذلك أن استعادة الأموال المنهوبة ليست عملية سهلة. نجاحها رهن تعاون الدول التي وصلت الأموال إلى مصارفها وأسواقها، فضلاً عن إرادة سياسية داخلية جاهزة لإجراء الإصلاحات القانونية والإدارية التي تساعد في تسريع استعادة الأموال. هذه العقبات ظهرت في عمليات مماثلة حصلت في الفيليبين والبيرو ونيجيريا.
برنارد بوتون ــ فرنسا


عوامل تسهّل عمليات النهب
هناك عدّة عوامل تسهم في تسهيل عمليات نهب الأموال العامّة. أهم هذه العوامل غياب الشفافية عن عمل الحكومات، ما يؤدي إلى تناقص المساءلة والمحاسبة الجدية الرسمية والشعبية للحكومات. وهذا الأمر يفتح المجال أمام الجهات المسؤولة لاتخاذ القرارات، التي تتضمن صفقات النهب والرشاوى، من دون الخوف من المحاسبة. بالإضافة إلى ذلك، تسهّل القنوات المتاحة، عملية تهريب هذه الأموال المنهوبة إلى خارج البلاد، وتفتح الطريق أمام الناهبين لإخفاء الأموال المسروقة، الأمر الذي يشكّل حافزاً للنهب. فيمكن تحويل الأموال إلى بلدان فيها مصارف تتمتع بالسريّة المصرفية، أو يمكن إخراجها إلى شركات وهمية في رحاب الملاذات الضريبية ويصعب تتبّعها. وبهذا تتوفّر أدوات تغطية أعمال النهب، وهي غياب الشفافية وسهولة إخفاء الأموال المسروقة، وأدوات تهريبها إلى الخارج.

صعوبات الاستعادة
تظهر التجارب التي تُعتبر ناجحة في مجال استعادة الأموال المنهوبة أن العقبات التي تواجه هذه العملية كثيرة ومتنوّعة. هناك عوامل يجب أخذها في الاعتبار عند التخطيط لاستعادة هذه الأموال. وأبرز هذه العوامل أن العملية تحتاج إلى وقت طويل وصبر لضمان نجاحها، أو حتى النجاح الجزئي، ورغم كل ذلك فإن نجاح استعادة الأموال قد لا يعني استعادتها بشكل كامل.
ولأن عملية استعادة الأموال المنهوبة تستغرق وقتاً طويلاً، فإنها تتطلّب تحمّل الكثير من البيروقراطيّة، سواء كانت في البلد «المنهوب» أو في البلاد التي توجد فيها الأموال المنهوبة والمهرّبة. فالمراسلات والطلبات والردّ عليها بين الأطراف المعنية تستهلك وقتاً طويلاً وإجراءات كثيرة.

بالأرقام

1.6 تريليون دولار

هي القيمة السنوية لعمليات تدفّق الأموال عبر الحدود الناتجة عن الأنشطة الإجرامية والفساد والتهرّب الضريبي بحسب مكتب الأمم المتحدة المعنيّ بالمخدرات والجريمة


148 مليار دولار

هي القيمة السنوية للأموال المهدورة بسبب الفساد في دول أفريقيا وهو ما يعادل 25% من الناتج المحلي لهذه الدول بحسب مركز موارد مكافحة الفساد

كما أن هذه العمليّة تحتاج إلى الدخول في قضايا ومحاكمات قد تستغرق سنوات لتتم تسويتها من قبل غرف التحكيم أو المحاكم العادية. فمثلاً امتدّت جهود استعادة الأموال في الفيليبين لمدّة 18 عاماً، من عام 1986 حتى عام 2004، قبل أن تُكلّل بالنجاح. وتضمّنت هذه المدّة جولات من الأخذ والرد بين حكومة الفيليبين والسلطات السويسرية حول تجميد أموال الرئيس السابق فرديناند ماركوس وتحويل معلومات عن حساباته في المصارف السويسرية وصولاً إلى تحويل الأموال إلى الفيليبين. وامتدّت عملية استعادة الأموال إلى نيجيريا نحو 8 سنوات، بين عامَي 1998 و2006، حتى استعادت الدولة بعضاً من الأموال التي نهبها الجنرال ساني أباتشا خلال حكمه لنيجيريا لمدة خمس سنوات بين عامَي 1993 و1998.
ولا يمكن أن تتحقّق استعادة الأموال من دون توفر الإرادة السياسية الداخلية في الدولة صاحبة القضية. سلوك هذا الطريق يبدأ بهذه الإرادة التي يجب أن تكون كاملة، لأن القرار الداخلي يمتدّ على جميع مراحل هذه العمليّة. وتظهر التجارب السابقة أن الدول بحاجة إلى الاستعداد للقيام بالإصلاحات القانونية لتضمن نجاح استعادة الأموال ومحاكمة الناهبين. فمثلاً كان إدخال الإصلاحات القضائية في البيرو أمراً أساسياً في نجاح عملية استعادة الأموال. كما كان مرسوم الجنرال أبو بكار الرقم 53 في عام 1999 في نيجيريا والذي أدى إلى مصادرة ما يقارب 800 مليون دولار من الأصول التي سرقها أباتشا وأعوانه، حجراً أساساً في نجاح هذه العملية.
كذلك، يمثّل العامل الخارجي تحدياً كبيراً أمام الدول التي تسعى لاستعادة أموالها. فتعاون الدول التي تحتضن الأموال المنهوبة المهرّبة، أمر أساسي. فإذا لم تبدِ هذه الدول استعدادها للتعاون، يمكن أن يُسجّل فشل سريع في عملية الاستعادة، أو على الأقل تأخيرها. وهذا ما حدث مع الفيليبين التي قدّمت طلباً للمساعدة المتبادلة مع إدارة الشرطة الفيدرالية السويسرية بموجب أحكام قانون المساعدة الدولية المتبادلة في المسائل الجنائية (IMAC). لم يتم قبول هذا الطلب من قبل السلطات السويسرية، على أساس أنه «غير محدّد وعام»، وهو ما لعب دوراً كبيراً في التأخير الكبير (18 سنة) الذي عانت منه عملية استرداد أموال الفيليبين. إلا أن هذا التعاون تطوّر أكثر مع الوقت، وهو ما ظهر في حالات البيرو ونيجيريا حيث بدأت سويسرا تتعاون بشكل أسرع مع طلبات هذه الدول بتجميد الأموال الملاحقة مثلاً. لكنّ هذا الموضوع لا يزال يشكّل عائقاً، حتى لو بشكل أقل من السابق، لأن طلبات إعطاء المعلومات عن الحسابات المجمّدة، على سبيل المثال، لا تلقى تجاوباً سريعاً.
حتى لو نجحت عملية استرجاع الأموال، فهي لا تعني استرداد كامل الأموال المنهوبة. ويعود ذلك إلى تعدّد قنوات التهريب التي قد لا يمكن تتبّع بعضها. فقد هُربت بعض الأموال نقداً في الحقائب، بالإضافة إلى تهريبها عبر شركات وهمية (shell companies) مقرّاتها في ملاذات ضريبية، وهي التي تُستعمل عادةً في التهرّب الضريبي. هذه الطرق صعبة التتبّع ولا يمكن السيطرة عليها. ففي نيجيريا، تُقدّر الأموال التي نهبها أباتشا من المال العام ما بين 3 و5 مليارات دولار، إلا أن السلطات هناك لم تستطع استرداد أكثر من 800 مليون دولار من الداخل و505 ملايين من الخارج. أما في البيرو فتُقدّر سرقة الرئيس السابق فوجيموري وأعوانه بنحو 2 مليار دولار استُردّ منها فقط 185 مليون دولار. وفي الفيليبين تُقدّر سرقة ماركوس بين 5 مليارات و10 مليارات دولار استُردّ منها فقط 624 مليون دولار.

تحدّيات ما بعد استرداد الأموال
النجاح في استرداد الأموال المنهوبة إلى كنف الدولة، لا يعني النجاح في الخطوة التالية. فالتحدي يكون في التخطيط لاستعمال هذه الأموال وخلق عائدات تعود بالنفع على المجتمع والاقتصاد بشكل عام. ففي حالة مثل حالة لبنان، يمكن أن تُستعمل الأموال المسترجعة، في سيناريو مثالي، كأموال إضافية يمكن وضعها في خطة شاملة لتحفيز الاقتصاد ودعم القطاعات المنتجة. ويمكن الاستفادة من التجارب «الناجحة» في استرجاع الأموال، من خلال دراسة الخطط التي أعدّتها ونفّذتها الدول التي خاضت التجربة، وما فعلته بعد استرداد الأموال. فالخطوة الأولى كانت بإنشاء صناديق خاصّة بهذه الأموال المستردّة وتوجيهها نحو هدف معيّن. مثلاً، في الفيليبين أنشأت الحكومة «صندوق الإصلاحات الزراعية» وكان الهدف منه تمويل البرامج الزراعية في البلد. وفي البيرو أنشأت الدولة صندوق «الإدارة الخاص بالأموال المتحصّل عليها بطرق غير مشروعة على حساب الدولة»، وكان الهدف منه توفير إطار من شأنه أن يسمح بإدارة مناسبة وشفافة لعائدات الفساد التي استردّتها الدولة. أما في نيجيريا، فقد تم توجيه الأموال من خلال القنوات التقليدية في موازنة الحكومة، وكان من المفترض استعمالها في إطار تطوير الخدمات مثل الصحّة والتعليم والبنى التحتية في المناطق الريفيّة.
هذه التجارب أثبتت أن غياب المراقبة والشفافية قد يؤدّي مجدداً إلى الهدر والفساد. ففي حالة البيرو، كان توزيع الأموال موضع شكّ، إذ إنه لم يكن مخطّطاً بشكل مسبق وتفصيلي. فعلى سبيل المثال تلقّت وزارة الداخلية 9 ملايين دولار واستُعملت لتمويل إجازات لشخصيات من الشرطة. كما حصل هذا في حالة الفيليبين حيث إن لجنة التدقيق لحظت أن جزءاً كبيراً من الأموال المستردّة استُعمل في تمويل مفرط لأعمال كان هناك شك في مدى فائدتها على القطاع الزراعي.



مبادرة استعادة الأصول المنهوبة
مبادرة استعادة الأصول المنهوبة هي عمل مشترك بين البنك الدولي ومكتب الأمم المتحدة المعنيّ بالمخدّرات والجريمة الذي يهدف إلى القضاء على الملاذات الآمنة للأموال الناتجة عن الفساد. وتُعنى هذه المبادرة بالعمل مع الدول النامية والمراكز المالية في العالم للحدّ من عملية غسل الأموال الناتجة عن الفساد، ولتسهيل إعادة الأصول المنهوبة بطريقة منهجية. فمن أعمال هذه المبادرة مساعدة الدول في إنشاء الأدوات والمؤسسات القانونية اللازمة لمواجهة تحديات استعادة الأموال المنهوبة. بالإضافة إلى العمل على تنسيق الجهود بين الحكومات والسلطات التنظيمية والوكالات المانحة والمؤسسات المالية ومنظمات المجتمع المدني، أي بين المراكز المالية والبلدان النامية. كما أنها تساهم في مساعدة الدول النامية من خلال تدريب الأفراد فيها على مهارات مهمّة في عملية استعادة الأموال المنهوبة، مثل تتبّع الأصول والتعاون الدولي في المسائل القانونية.