تعدّدية أسعار الصرف هي مصلحة خالصة للمصارف. أي محاولات توحيد سعر الصرف ستواجهها المصارف بشدّة. هذا الأمر حصل أيام حكومة حسان دياب حين ادّعت المصارف كذباً بأنها لم تُستشار في الخطّة، ويحصل الآن في ظلّ الحكومة التي تحابيهم وتُناصر مواقفهم ولديهم فيها نفوذاً واسعاً، لكنها تزعم أيضاً، كذباً، بأنها لم تُستشار. ففي المرّة الأولى كانت وفود المصرفيّين «ما بتتكنّس» من مكتب دياب ولا من مكتب مستشاريه. وقبل أسابيع على خطّة ميقاتي، وحتى قبل أن يرفضها صندوق النقد الدولي، حصلت اجتماعات عدّة بين نائب رئيس الحكومة ومعه مسؤولين في «لازار» مع هيئة مكتب مجلس إدارة جمعية المصارف الذين رفضوا أي إقرار بأنّ لديهم أي «خسائر».هذا الرفض لا يقف عند حدود الإقرار بالخسائر، بل يتجاوزه نحو رفض إعادة هيكلة المصارف ونحو توحيد أسعار الصرف. فأيّ خطوة في هذا الاتجاه تعني خسارة المصرفيّين لأسهمهم في المصارف، وتعني خسارة فورية بقيمة 14.3 مليار دولار في المحافظ الائتمانية التي تديرها المصارف، أي في محافظ القروض للقطاع الخاص. فلنأخذ مثلاً مسألة توحيد سعر الصرف، ففي أي عملية من هذا النوع، سيكون لأي تغيير في سعر الليرة المعتمد من قبل الحكومة، تداعيات كبيرة على ميزانيات المصارف اللبنانية. فإذا افترضنا أنّ الحكومة تبنّت سعراً يبلغ 20 ألف ليرة مقابل كل دولار، أي السعر الذي اعتمدته الحكومة في مشروع موازنة 2022، فإنّ هذا الأمر سيؤدي إلى زيادةٍ فوريّةٍ في الخسائر يقدّرها مصرف باركليز البريطاني بنحو 14.3 مليار دولار.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ما لا تريد أن تفهمه المصارف، هو أنّ توحيد سعر الصرف هو واحد من أركان أي خطّة تعافٍ. ففي البيان الأخير الذي صدر عن الصندوق بعد انتهاء جولة من المشاورات مع الحكومة اللبنانية، ورد أنّ لبنان بحاجة إلى نظام نقدي ونظام سعر صرف موثوق. ما يقصده الصندوق، هو أنّ المحاولة الأولى لتوحيد سعر الصرف التي قام بها مصرف لبنان عبر خلق منصّة «صيرفة» والتي جرى الاستناد إليها في مشروع موازنة 2022 لتحديد معدل سعر الصرف النظامي (الرسمي) لا تعدّ نظاماً موثوقاً، لأنها ليست مبنية على سياسة نقدية بنّاءة وواضحة. فإدارة النظام النقدي لا تتعلق بالحفاظ على فئة من المقيمين تتمثّل في المصارف ومساهميهم وبعض من يدور في فلكهم، بل تتعلق بالحفاظ على قيمة الليرة لعموم الناس وفق ما نصّ عليه قانون النقد والتسليف في مادته الـ70 التي تُشير إلى الحفاظ على سلامة الليرة وعلى سلامة الاقتصاد. وبالتالي لا يفترض أن يُدار النظام النقدي من أجل خدمة هذه الفئة من خلال تحويل الودائع بالليرة إلى دولار، كما يُفترض بأن يكون توحيد أسعار الصرف أول خطوة نحو الإقرار بالخسائر تمهيداً لتوزيعها.
ومع بداية الأزمة، كان ابتعاد سعر الصرف السوقي عن سعر الصرف المعتمد من قبل الحكومة، عاملاً أساسياً في زيادة خسائر المصارف بالعملات الأجنبية. فقد انخفضت نسبة الدولرة في القروض الخاصّة بشكل كبير، فيما بقيت هذه النسبة مرتفعة في الودائع بالعملات الأجنبية. ما يعني أن الفجوة بين المطلوبات بالعملات الأجنبية، وبين الموجودات المقوّمة بهذه العملات ازدادت كثيراً، وبالتالي ازداد انكشاف المصارف على الخسائر بالعملات الأجنبية. سبب ذلك، أن أصحاب القروض الخاصة استغلّوا تعدّدية أسعار الصرف والفرق بين سعر الصرف السوقي وسعر الصرف المعتمد من قبل الحكومة (1507.5 ليرة لكل دولار)، الذي كانت تُسدَّد على أساسه القروض المقوّمة بالدولار. فقد كان قرض الألف دولار، على سبيل المثال، يُسدد بقيمة مليون و500 ألف ليرة، التي كانت تساوي أقل بكثير من ألف دولار في السوق. وأكثر من استفاد من هذه العمليات هم كبار التجار، بالأخص في قطاع الإنشاءات.
كان ابتعاد سعر الصرف السوقي عن سعر الصرف المعتمد من قبل الحكومة، عاملاً أساسياً في زيادة خسائر المصارف بالعملات الأجنبية


لكن، بحسب مصرف باركليز، إنّ رفع سعر الصرف المعتمد من قبل الحكومة سيُسهم في زيادة الخسائر. فهذه الخطوة تعني أنّ القروض بالدولار يجب أن تُسدد على أساس سعر صرف أعلى بكثير من 1507.5 ليرات لكل دولار. وهو ما يؤدي إلى تدهور أكبر في قدرة المدينين على سداد قروضهم، وبالتالي ترتفع نسبة الديون المشكوك بتحصيلها وتزداد خسائر المصارف. هذا مسار حتمي إن لم تسِر عملية إعادة هيكلة الدين العام والمصارف، بالتوازي مع خطّة اقتصادية فيها إصلاحات ورؤية تنموية. فبحسب باركليز إنّ «أي رفع في سعر الصرف الرسمي يجب أن يتم بالتوازي مع عمليّة «haircut» على الودائع وإعادة هيكلة للديون بالعملة المحليّة وبالدولار، بالإضافة إلى إصلاحات بنيوية أخرى في القطاع». فإنّ عمليّتَي «قصّ الشعر» وإعادة هيكلة الديون من شأنهما التخفيف من انكشاف المصارف على الثغرة بين مطلوبات وموجودات العملات الأجنبية.