منذ بداية الأزمة، ركّزت المصارف وشركاؤها في السلطة على ترويج فكرة تحميل الدولة أعباء الخسائر اللاحقة بالقطاع المصرفي. طُرح الأمر بطرق عدّة منها ما هو مباشر مثل تسييل أصول الدولة وخصخصة مؤسّساتها، ومنها غير مباشر وعبر طرق ملتوية توصل إلى النتيجة نفسها كما هو مطروح اليوم في خطّة حكومة نجيب ميقاتي، أي إصدار سندات مدعومة بالأصول، أو الأداة التي يُطلق عليها اسم «Asset Backed Securities». هذه الأداة هي جزء من عمليّة «تسنيد الأصول» التي صارت رائجة في أسواق المال منذ الثمانينيات ونافست سوق سندات الخزينة الأميركية، ثم تضخّمت أكثر بسبب استعمالها لتسنيد قروض الرهن العقاري التي انفجرت في نهاية عام 2008 وخلقت أزمة مالية عاملية انطلقت من الولايات المتحدة نحو كل الأسواق المالية والعقارية حول العالم.
أنجل بوليغان ــ المكسيك


خصخصة الإيرادات لتغطية الخسائر
إصدار سندات مدعومة بالأصول من أجل تغطية خسائر القطاع المصرفي، هو في الواقع، عملية رهن للإيرادات المستقبلية التي ستتأتّى من مؤسّسات الدولة التي تمثّل منفعة عامة لكل المقيمين في لبنان. لذا، فإن تخصيص هذه الإيرادات هو تعميم للخسائر على كل المقيمين، بل يجعلها أكثر تمييزاً تجاه مختلف الطبقات الاجتماعية. فمن هو قادر على التحمّل، سيدفع ثمناً موازياً، لأولئك الذين لا قدرة لهم على التسديد. ومن سيُحرم من استثمار هذه الإيرادات في المنفعة العامة، حتماً لا يقاس حرمانه بأولئك الذين لديهم نسبة ولوج إلى الخدمات العامة والخاصة أضعاف ما لدى سائر الطبقات.

6.8 تريليون دولار

هي قيمة سوق التسنيد في عام 2003 التي نافست سوق السندات الأميركية التي بلغت يومها 7.1 تريليون دولار

التوصل إلى هذه النتيجة ليس أمراً عسيراً، لكنه يتطلب بعض الجهد التقني. يبدأ الأمر بعملية «تسنيد الأصول» أو الـ«Securitization». فهي عبارة عن تجميع للأصول (الأملاك) التي تدرّ الإيرادات واعتبارها ضمانة من أجل إصدار أوراق مالية تمنح حامليها السيطرة على الإيرادات. قد لا تكون الأصول من نوع واحد، بل يمكنها أن تكون أصولاً مادية مثل المؤسّسات العامة كالكهرباء والموانئ والمطارات، وقد تكون أصولاً مالية كالقروض المصرفية. وتُسمّى الأوراق المالية الناتجة من عمليّة التسنيد: سندات ماليّة مضمونة بأصول (Asset-Backed Securities). أما الإيرادات التي سيتم الاستحواذ عليها فقد تكون على شكل رسوم وتعرفات يدفعها المشتركون في شركة اتصالات أو الكهرباء أو عمليات التخزين والتصدير، أو قد تكون على شكل فوائد يدفعها المقترضون، وجميعها ستُنقل إلى شركة خاصة (Special Purpose Vehicle) ستقوم بإصدار السندات. وستدفع الشركة الجديدة أو الكيان الجديد لحاملي السندات فوائد مموّلة بإيرادات المؤسسات «المسنّدة».
هذا يعني أن ما تطرحه الحكومة في خطّة التعافي سيقوم على الخطوات الآتية: تجميع أصول الدولة المدرّة للإيرادات، ثم نقلها إلى كيان جديد. وهذا الكيان، أو الشركة، ستُصدر سندات مدعومة بإيرادات المؤسسات التي استحوذت عليها، وتُمنح هذه السندات للمودعين مقابل ودائعهم التي خسرتها المصارف. هكذا، تكون الدولة اللبنانية قد تحمّلت خسائر المصارف تجاه المودعين، وموّلتها بإيرادات مستقبليّة كان يمكنها أن تستثمرها في المنفعة العامة.

إدارة مخاطر المصارف وتمويلها؟
من مخاطر عمليات «التسنيد»، بحسب تعريف النظام الرأسمالي الذي خلقها، عدم السداد.
فعمليات «التسنيد» بدأت مع الأصول المالية مثل القروض والمطلوبات الائتمانية، أي أنه على سبيل المثال، إذا قام أيّ مصرف بمنح قروض سكنية لنحو 100 شخص وهو لا يريد تحمّل وزر مخاطر عدم سدادها، فإنه يجمعها في حزمة واحدة ويصدر على أساسها سندات مدعومة بعائداتها ويقبض ثمنها. بهذه الطريقة، يحوّل المصرف الأموال الناتجة من بيع السندات إلى وسيلة للتخلّص من هذه القروض وشطبها من ميزانيته وترحيلها إلى ميزانيّة الكيان الجديد (SPV). وفي المقابل، تصبح مخاطر هذه السندات أقلّ من مخاطر السندات العادية لأن مخاطر عدم السداد تتوزّع على كل المحفظة (الـ100 مقترض)، وليس على طرفٍ واحد كما هو الحال في السندات العاديّة الصادرة من المصرف.

تتولّى الدولة إدارة وتمويل مخاطر المصارف بعد فشلها في الحفاظ على ودائع الزبائن أي بعد الفشل الائتماني وسوء الإدارة فيها


لكن في الحالة اللبنانية المطروحة في خطّة التعافي، لا يتم استعمال «التسنيد» بهدف إدارة المخاطر، بل بهدف تمويل الخسائر المصرفية. عملياً تتولى الدولة إدارة وتمويل مخاطر المصارف بعد فشلها في الحفاظ على ودائع الزبائن، أي بعد الفشل الائتماني وسوء الإدارة فيها. فالدولة تتخلّى عن الإيرادات المستقبلية مقابل شطب ودائع مصرفية. وكذلك في الحالة الراهنة، يتبيّن أن مخاطر عدم السداد ستنتقل من عاتق المصرف إلى عاتق المؤسسات المسنّدة في مقابل إعفاء نهائي للمصارف من هذه المخاطر. أصلاً الفكرة التي تكمن وراء عملية «التسنيد» في خطّة التعافي، هي عبارة عن خصخصة مقنّعة للأصول. فبموجب العملية ستبقى الأصول ملكاً للقطاع العام، إنما هي ملكية شكلية لأن كل ما تحقّقه من إيرادات سيذهب على المدى الطويل لتمويل فوائد السندات وستخسره الخزينة العامة. وهي أيضاً ستخلق سوقاً للمتاجرة بهذه السندات ليس بالضرورة أن تكون تحت الرقابة أو ستخضع للمعايير المعتمدة دولياً بعيداً من التركيبة اللبنانية. بمعنى أوضح، فإن هذه السوق ستتحوّل إلى ما يشبه التركيبة اللبنانية التي لم تسقط نهائياً بعد رغم كل هذا الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي. ففي لبنان تركيبة قادرة على التوسّع في أي مشروع أو أي سوق، بناءً على رغبات الطبقة الحاكمة بنفوذها على إدارة السلطة، وبشراكتها مع أصحاب الرساميل بمختلف أشكالهم وأنواعهم.

إصدار سندات مدعومة بالأصول من أجل تغطية خسائر القطاع المصرفي، هو في الواقع، عملية رهن للإيرادات المستقبلية التي ستتأتّى من مؤسّسات الدولة

وبالتالي فإن احتمالات تحوّل هذه السوق إلى عمليات متاجرة لبيع المشتقات المالية أو الوهم المالي أكثر من محتمل. وهو أمر سيتحوّل سريعاً إلى أزمة إذا تقلّصت إيرادات الأصول. لا يجب أن نغفل أن الكثيرين من أتباع الطبقة الحاكمة من مؤسّسات عامة وخاصة وأولئك ممن يسمّون أنفسهم خبراء، أو حتى أساتذة جامعيين، ووسائل الإعلام وسواهم، كانوا ينظّرون بأن الليرة لا تنهار بينما كان الانهيار مزروعاً كقنبلة موقوتة داخل بنية نموذج الاقتصاد السياسي للبنان. فكلما كبر حجم النموذج، ازداد حجم القنبلة. هؤلاء سيلعبون دوراً في التسويق والترويج لأدوات من نوع «التسنيد» وبناء مشتقات مالية عليها تتم المتاجرة فيها في السوق الثانوية، من دون أي صلة واضحة بقيمة هذه الأصول. عملياً، لبنان مؤهل أكثر للانحراف نحو المشتقات المالية والانفجار سريعاً بهذه القنبلة التي تزرعها الحكومة داخل بنية «التعافي».
كما أنه ليس هناك ما يمنع المودع من بيع هذه السندات مقابل الأموال النقدية. وإذا حصل هذا الأمر، فما هي الحالة القانونيّة لهذه السندات في حالة عدم قدرة المؤسسات على سداد عائداتها؟ لذلك قد تصبح هذه السندات عبارة عن أوراق ماليّة قد تتحوّل إلى أسهم في المؤسسات العامّة اللبنانية في حال عدم قدرة عائداتها على سداد فوائد السندات.

صعوبة التصنيف
لكن ليست هذه المخاطر الوحيدة التي ستترتب على عملية «التسنيد». فهناك مخاطر أخرى من أهمها صعوبة تصنيفها ائتمانياً، لأن هذه السندات تكون مدعومةً بعدد كبير من الأصول. لقد كان هذا الأمر جزءاً أساسياً مما حدث في الأزمة الماليّة العالميّة عام 2007. فقد أصدرت المصارف آنذاك الكثير من هذه السندات المدعومة بأصول بينما هي في الواقع، قروض رهن عقاري. وكان تجمّع الأصول الذي يدعم كل من تلك السندات صعب التصنيف لجهة المخاطر، لأنها كانت تضمّ عدداً ضخماً من القروض التي كان جزء مهم منها قد أُعطي إلى مقترضين غير مصنّفين واستفادوا من أسعار الفوائد المنخفضة في بداية الألفية. في المقابل لم تقم شركات التصنيف الائتمانية بتعديل تصنيفات هذه الأدوات الماليّة، بسبب صعوبة تصنيفها، هذا الأمر أوصل السوق الماليّة الأميركية إلى الكارثة التي حدثت عام 2008، عند أوّل اهتزاز في سوق العقارات الأميركي.
على أيّ حال، من غير الواضح ما هو الوضع القانوني للمؤسّسات التي يتم نقلها إلى الكيان ذي الغرض الخاصّ (SPV)، فهل يبقى تحت كنف الدولة؟ ومن غير الواضح أيضاً، من هي الجهة المسؤولة عن إدارة هذه المؤسسات عندما تُنقل إلى ملكية الكيان. فإذا كان لهذا الكيان مجلس إدارة، فمن يُعينه، وما هو الضمان القانوني لالتزامه بقرارات الدولة؟ كل ذلك يدلّ على أن مسار «التسنيد» هو مجرد عنوان لتمرير صفقة لبيع أصول الدولة إنما تحت مسمّى تقني.



620 تريليون ليرة
هي قيمة المبالغ التي سيتم تسنيدها بإيرادات الأصول العامة المقدّرة قيمتها بنحو 37 مليار دولار مقابل تذويب ودائع ستسدّد من حسابات الدولار بعد تحويلها إلى الليرة عبر أسعار صرف متعدّدة (5000 ليرة مقابل الدولار، أو 12000 ليرة، أو 20000 ليرة). هذه العملية تنتج العديد من الإشكاليات الحقيقية أولها شكل ملكية الكيان الجديد الذي سينشأ، ولمن تعود السيطرة فيه. وثاني أمر يتعلّق بتخمين قيمة هذه الأصول من أجل عملية «التسنيد» وتقدير إيراداتها المستقبلية. وثالثاً، تقدير المخاطر التي قد تؤثّر على إيرادات هذه الأصول ولا سيما أنّ التسنيد سيتم على أساس سعر صرف ثابت بقيمة 20 ألف ليرة لكلّ دولار، لكن سيستمرّ الأمر على مدى 15 سنة، وبالتالي فإنّ الأسعار قابلة للتغيّر بشكل كبير، ما سينعكس على الإيرادات وعلى قيمتها الحقيقية. كذلك هناك إشكالية أساسية ناتجة من إشكالية شكل الملكية. فبموجب العملية سيتحوّل اتخاذ القرار بشأن هذه المؤسّسات إلى مديري الكيان الجديد الذي سينشأ لإدارة هذه الأصول، وبالتالي لا يمكن تقدير ما هي انعكاسات هذه العملية على موظّفي هذه المؤسسات، وعلى التعرفات والأسعار للخدمات التي تقدّمها وكيفية تحديدها.