لم يكن تردّي الأوضاع الأمنية في لبنان، وما نتج منها من تسيّبٍ وفلتان واستباحة للمرافق العامة، وحده مسؤولاً عن العجز المالي الذي تعيشه مؤسسة كهرباء لبنان منذ اندلاع الحرب الأهلية ولغاية الآن. ولم يكن تجميد تعرفة بيع الطاقة، بقرار سياسيّ خاطئ، على أهميّته، مسؤولاً عن تدهور الوضع المالي في هذه المؤسّسة التي أصبحت مفلسة تعيش على التسوّل، وتعتمد لتسيير وتشغيل بعض نشاطها، على دعم الدولة المالي مقابل تزويد المشتركين بساعتين من التغذية بالتيار الكهربائي في اليوم الواحد، علماً أنّ مجمل قيمة سُلف الخزينة المعطاة لكهرباء لبنان، تجاوز 25 مليار دولار، أي نحو 25% من الدين الحكومي.ولكي تستمر المؤسسة بتزويد مشتركيها بساعتَي إنارة في اليوم، اضطرت الوزارة الحالية، إلى حجز سلفة مالية بقيمة 5250 مليار ليرة في مشروع موازنة 2022، حتى تتمكّن من الاستمرار والبقاء. وهذه السلفة المجانية، تمثّل 13% من قيمة الموازنة العامة وتزيد العجز فيها بنسبة 50%.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هو: ما الذي منع كهرباء لبنان من تمويل ذاتها، ولو جزئياً من طريق جباية الرسوم المتوجبة على مشتركيها، أسوة بما قامت به بقية المؤسسات والمصالح المشابهة؟
فمؤسّسات مياه الشفة الخمس، ومصلحة الليطاني، الذين يعيشون في نفس الظروف الأمنية الصعبة والمعقّدة، تمكّنوا من تحصيل نسبة عالية من الرسوم المتوجبة على المشتركين، ما سمح لهم بتغطية أكلاف المرفق العام الذي يديرونه من دون أي سُلف مالية من خزينة الدولة.
فعلى سبيل المثال لنأخذ مشروع ريّ القاسمية ورأس العين الذي خضع للاحتلال الإسرائيلي، على مدى ثلاث سنوات متعاقبة، والذي تخترق قناته عشرة مخيّمات فلسطينية، قائمة بين الرشيدية، وعين الحلوة شرقي صيدا، ويعيش 80% من ملّاكيه خارج القطاع في المدن الساحلية، أو في بلاد الاغتراب، علماً بأنّ قوى الأمر الواقع وضعت يدها على الكثير من البساتين فيه… في ظلّ هذه الظروف الصعبة والقاسية تمكّن القيّمون من جباية نحو 85% من الرسوم المتوجّبة على المشتركين بسلاح وحيد هو: قطع المياه عن كل مشترك لا يسدّد الرسوم عن البستان، مهما كانت طبيعة مستثمره، مالكاً، أو مستأجراً، أو واضع يد. كذلك استعملت أداة تنظيم محضر الضبط بحقّ المخالفين والمعتدين على مياه القناة، وحرمها. وتمّ ربط إعطاء براءة الذمة عن العقار، بتسديد الرسوم المتوجّبة عليها للمصلحة. وشمل هذا التدبير جميع العقارات التي انتقلت ملكيّتها سواء بالإرث أو البيع. وفي حال تمنّع المالك عن تسديد هذه الرسوم، يمكن للمصلحة وضع إشارة على الصحيفة العينية للعقار.
هذه التدابير الجريئة، مكّنت المصلحة من إزالة جميع التعدّيات الواقعة على المشروع ومنشآته، وأتاحت اكتشاف نحو خمسة آلاف دونم تُروى من دون تصريح وبغير رسوم، فأجبر أصحابها على دفع رسوم الريّ عن خمس سنوات فائتة استناداً إلى قانون «مرور الزمن الخماسي». أيضاً أُجبر أصحابها على تقديم طلبات اشتراك بمياه المشروع.
هناك نموذج ثان يعبّر عن الإدارة الناجحة، هو مصلحة مياه نبع الطاسة التابعة لمؤسّسة مياه لبنان الجنوبي والتي حصّلت رسوم المياه المتأخرة من مشتركيها كافة في إقليم التفاح الذي شهد حرباً دارت رحاها بين تنظيمَين محليّين وأدّت إلى قطع المياه عن الإقليم، لمدّة لا تقل عن ستة أشهر متتالية.
كذلك، نظّمت المصلحة، أخيراً، محاضر ضبط بحق مخالفين (بينهم 150 مشتركاً في قرية واحدة) معتدين على الشبكة. وأجبرت المخالفين على دفع غرامة مالية معتبرة وتركيب عدادات شرعية على مآخذ المياه التي تصل منازلهم بالشبكة العامة.
أغرب ما في الأمر، أنّ مصلحة ري القاسمية حصّلت رسوم مياه الري من المشتركين الذين يروون أراضيهم بطريقة الضخّ، وهؤلاء يشكلون ما يعادل 40% من عدد المشتركين بالمياه. لكنّ مؤسسة كهرباء لبنان، لم تحصّل رسوم الطاقة الكهربائية المستهلكة في محطّات الضخّ التابعة لهؤلاء المشتركين.
في المقابل، لم تعد كهرباء لبنان قادرة على حماية منشآتها من التعدّيات، وليست قادرة على جباية الرسوم المتوجبة على الطاقة الكهربائية الفعلية التي تنتجها، بل تعرّضت معظم شبكاتها ومنشآتها للتعدي عبر سرقة التيار الكهربائي بأساليب وأشكال مختلفة ومتعددة من أبرزها:
- تعطيل العدادات المثبتة على مداخل المنازل والأبنية. وهذا الأمر طاول نحو 70% من العدد الإجمالي لعدادات الطاقة الكهربائية.
- التعليق مباشرة على الشبكات وسرقة التيار الكهربائي. ويشهد على هذا الشكل من التعديات «آلاف الحبال» المعلّقة على الخطوط العامة المنتشرة في ضواحي بيروت والمدن الأخرى وفي مخيمات اللاجئين، فضلاً عن النازحين الذين يصل عددهم إلى نحو 40% من سكان لبنان.
يُضاف إلى هذه التعديات المكشوفة، سرقة خطوط الكهرباء، وبعض الأدوات ليلاً، واحتراق بعض المحوّلات نتيجة الحمولة الزائدة عليها، إضافة إلى احتلال بعض محطات التوزيع والعبث بمحتوياتها.
أما عن جباية الرسوم وتحصيلها، فقد اقتصرت خلال أربعين عاماً، على تحصيل رسوم عن العدادات، وما يسجّله بعضها من طاقة على أساس تعرفة يُقدّر متوسطها بمئة ليرة لبنانية للكيلواط الواحد. وفي المقابل وصل سعر الكيلواط الواحد في عداد اشتراك المولدات الخاصة، إلى ما يزيد عن 8500 ليرة. كما وصل الرسم الثابت للعداد إلى 80 ألف ليرة (لكل 5 أمبيرات).
هناك مؤسّسات أوصلت المياه إلى المشتركين بتمويل ذاتي بينما مؤسسة الكهرباء «ابتلعت» 25% من الدين العام وسلفات خزينة متواصلة مقابل إنتاج ساعتين من الطاقة يومياً


ولكي تتمكّن مؤسّسة كهرباء لبنان، من تحصيل هذه الرسوم الزهيدة، استعانت منذ عام 2000 بجيش من جباة الإكراء لا يغطّي مجموع جباياتهم، رواتبهم وأكلاف تنقلاتهم.
ولو فرض تجميد التعرفة، من قبل سلطة الوصاية بقرار سياسي خاطئ، إلّا أنّ رفع التعرفة تباعاً، لا يغطي إلّا جزءاً يسيراً من أكلاف التشغيل لأن 70% من التيار يذهب هدراً، أو تتمّ سرقته في وضح النهار.
هذه المقارنة بين مؤسّسات عامة نجحت في إيصال المياه إلى المشتركين بتمويل ذاتي مقابل «ابتلاع» مؤسسة كهرباء لبنان نحو 25% من الدين العام من دون أن تتمكن من إنتاج أكثر من ساعتين من الطاقة في اليوم الواحد. لذا، إذا كنا منصفين، يمكن توزيع المسؤولية عن العجز في مؤسسة كهرباء لبنان على النحو الآتي:
- 40% من العجز يقع على تجميد تعرفة بيع الطاقة الكهربائية.
- 60% من العجز يقع على سوء الإدارة في المؤسسة التي تخلّت عن دورها في منع التعدي على المنشآت بتنظيم محاضر ضبط بالمخالفين، وعن جباية الرسوم عن الطاقة الكهربائية المستهلكة فعلياً من قبل المشتركين، ولا سيّما أنّ غالبيّتهم سدّدوا رسوم المياه المترتبة عليهم وقيمتها تتجاوز قيمة الطاقة الكهربائية المسجلة في عداداتهم. وأخيراً، وليس آخراً، غياب دور أجهزة الرقابة على إنفاق السلف المتتالية لمؤسسة كهرباء لبنان.

* مهندس ورئيس مصلحة ريّ الجنوب سابقاً.