يُعتبر خفض قيمة العملة إجراءً اعتيادياً للدول الراغبة في تعزيز صادراتها وتحسين حساباتها الخارجية. فانخفاض قيمة العملة ينعكس إيجاباً على كلفة إنتاج السلع المنتجَة محلياً مثل اليد العاملة، والخدمات التشغيلية، وغيرها. وهذا الأمر يؤدي إلى تدنّي أسعار المنتجات المصدّرة ويجعلها أكثر تنافسية في الأسواق الخارجية. وبالتالي، يشجّع على زيادة وتنشيط قطاع التصدير. لكنّ اللافت في أزمة لبنان التي انفجرت قبل سنتين ونصف سنة، أن انخفاض قيمة الليرة لم يخلق حافزاً لتقليص كلفة الإنتاج المحلي وتعزيز الصادرات كما تتوقّع النظرية الاقتصادية. ففي عام 2020، أي السنة التي ظهرت فيها مفاعيل الأزمة بشكل واضح وفي نهايتها خسرت الليرة 82% من قيمتها، بلغت قيمة الصادرات اللبنانية 3.5 مليارات دولار بانخفاض مقارنة مع صادرات بقيمة 3.7 مليارات دولار في عام 2019، أي السنة التي سبقت التدهور الكبير في قيمة الليرة.

يفسّر البنك الدولي هذا الأمر في آخر تقرير له عن لبنان بعنوان «الإنكار المتعمّد» بأنه نتيجة ثلاثة عوامل هي: أساسيات الاقتصاد اللبناني ما قبل الأزمة، العوامل العالمية المرتبطة بأزمة كورونا، البيئة السياسية والمؤسّساتية. ويقدّم البنك الدولي تفسيرات لهذه العوامل الثلاثة على الشكل الآتي:

الخلل في أساسيات الاقتصاد اللبناني
هذا الخلل سابق على الأزمة، ويبدأ من حقيقة أن الجزء الأغلب من الاقتصاد يتكوّن من قطاع الخدمات الذي شكّل 72% من الناتج المحلّي خلال الفترة الممتدة بين عامَي 2004 و2016. وفي الوقت نفسه شكّل قطاع الصناعة 14% من الناتج بينما شكّل قطاع الزراعة 4.3%. هذه الأرقام تظهر أن هناك نقصاً في الاستثمارات في القطاعات المنتجة التي يمكن تصدير إنتاجها، وهي أحد العوامل التي حالت دون زيادة الصادرات بعد انخفاض قيمة الليرة. وفي هذا الجانب تبيّن أن الاستثمار الإنتاجي كان يشكّل فقط 23% من الناتج المحلّي، ومعظمه كان موجّهاً نحو قطاع العقارات. إن هذا التوجّه نحو قطاعات الخدمات وقطاع العقار، في اقتصاد يستحوذ الاستهلاك فيه على 88.4% من الناتج المحلي، أدّى إلى تحوّل الاستهلاك نحو المنتجات المستوردة على حساب الإنتاج الوطني، الأمر الذي أدّى إلى الحدّ من تحفيز الإنتاج الداخلي. لذا، كان الاقتصاد اللبناني أحد أقلّ الاقتصادات تنافسية في المنطقة وفي العالم. مؤشر التنافسية العالمية (GCI) الذي يصدره المنتدى الاقتصادي العالمي، يظهر أن الاقتصاد اللبناني يقع في المركز 105 بين 137 دولة لجهة التنافسية. هذا المؤشّر يركز على تحليل العوامل التي تسهم في إنتاجية الاقتصاد، مع مراعاة التغيّرات العالمية التي تسهم في تعزيز القدرة التنافسية (مثل التقنيات الحديثة وغيرها). ويضع هذا المؤشّر، لبنان في مؤخّرة الترتيب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فهو يسبق فقط اليمن الذي يعاني من حرب وحصار منذ ما يقارب السنوات السبع.
الجزء الأغلب من الاقتصاد يتكوّن من قطاع الخدمات الذي شكّل 72% من الناتج المحلّي خلال الفترة الممتدة بين عامَي 2004 و2016


العوامل الخارجية
من أبرز العوامل الخارجية التي أدّت إلى تراجع الإنتاجية في لبنان، الاتفاقات الثنائية والمتعدّدة الأطراف التي أجرتها الحكومات المتعاقبة مع دول عربية وأخرى أجنبية، منها «منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى» في عام 1998، أو ما يُعرف بـ«اتفاقية التيسير العربية» التي أفقدت الإنتاج السلعي اللبناني قدرته على منافسة السلع الواردة التي تحظى بدعم حكومي في دولها، فيما غاب هذا الدعم في لبنان وفقد الإنتاج المحلي الحماية الجمركية التي ألغتها هذه الاتفاقية، وهناك أيضاً «اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي ولبنان» وغيرها. يربط البنك الدولي بين هذه الاتفاقيات والاتساع الهائل في العجز التجاري للسلع. فتدهور الميزان التجاري من عجز بنسبة 25.1% من الناتج المحلي في عام 2002 إلى عجز 38.3% من الناتج في عام 2008، وثم بين عامَي 2011 و2018 بلغ معدّل العجز 29.8% من الناتج المحلّي.
تظهر هذه الأرقام أن العجز التجاري ازداد سوءاً بالتزامن مع الاتفاقيات التجارية التي لم تكن في مصلحة لبنان، بل أتت لتعزّز ميول الاقتصاد اللبناني إلى الاستهلاك المستورد. أما بالنسبة إلى انعكاسات أزمة كورونا على القطاع السياحي في لبنان، فقد كانت عنصراً أساسياً من الفائض في حساب ميزان تجارة الخدمات (تُحتسب العائدات السياحية كجزء من الخدمات المصدّرة). هذا الأمر، بحسب البنك، لعب دوراً كبيراً في عدم ارتفاع قيمة الصادرات (سلع وخدمات) خلال الأزمة المالية اللبنانية.


البيئة السياسية والمؤسّساتية
يضع البنك الدولي لوماً كبيراً على الفراغ السياسي، الذي حلّ في البلد بعد استقالة حكومة الرئيس حسّان دياب، إذ استمرّت البلاد من دون حكومة فاعلة لمدة 13 شهراً. هذا الاستنتاج مبرر، إذ إنه حال دون تحديد استراتيجيات تسمح باستغلال التراجع في قيمة الليرة لزيادة الصادرات عبر الاستثمار في الإنتاج الحقيقي. كما أن النظام الذي اعتاد عليه لبنان، بحسب البنك، بعد الحرب الأهلية كان قائماً على استغلال النخب الاجتماعية والسياسية لجميع الموارد في البلد، الأمر الذي مثّل عقبةً أساسيةً أمام وجود اقتصاد منتج يسمح بزيادة الصادرات.